(2) حتى نبدأ عملية اصلاح منظومة التعليم بطريقة منهجية فاعلة؛لا بد من قيام لجان متخصصة لوضع خطة انقاذ عاجلة ؛ تكون بمثابة إنقاذ للنسق التربوي التعليمي في بلادنا من الأزمات العديدة التي يتخبط فيها. وتستند في جوهرها على مبدأين أساسين. المبدأ الأول يكمن في التخطيط المبرمج الذي يتسم بالتدقيق، والتركيز، والانتقاء، والفاعلية، والإجرائية، والبراجماتية، وقابلية التنفيذ... والمبدأ الثاني يتضح جليا في التنفيذ الفوري للبرنامج، والتسريع في تطبيقه ، وترجمته ميدانيا وواقعيا ، بدون تريث ولا إبطاء ولا تأخير، ولو تحقق ذلك التطبيق عبر فترات متعاقبة ، وضير من أن يتم تنفيذه بشكل استعجالي متدرج عبر سنوات دراسية متوالية؛ لأن برنامج إصلاح التربية والتعليم هو برنامج بشري تنموي تظهر نتائجه عبر فترات بعيدة قد تستغرق مرحلة تعليمية بأكملها. إن أي استعجال لا تسبقه دراسات متأنية، ووضع مخططات علمية إستراتيجية، قد تنتج عنه كوارث وأزمات ومثبطات عويصة من الصعب أن يتحملها الجميع كما هو حال المشاريع التربوية الوزارية السابقة. ومن ثم، يقول التربويون أن الزمن المدرسي زمن بطيء، على اعتبار أن إدخال أي تدبير يستغرق مدة من الزمن. وهذا يجعل كذلك محاسبة نجاح أو فشل العمليات الإصلاحية يتعدى الزمن السياسي والحكومي، بل النتائج الفعلية لن تظهر إلا بعد عشر أو خمس عشرة سنة." ومن هنا، فالمخطط الاستعجالي هو عبارة عن رؤية متكاملة قابلة للإنجاز في ظرف وجيز بعمر الشعوب ولكن المهم أن نبدأ. لماذا نحن أحوج ما نكون لخطة عاجلة؟ الاجابة ببساطة هي يمكننا اعتبار هذه االخطة العاجلة بمثابة ميثاق وطني لاصلاح منظومة التربية والتعليم ؛ وحتى نبدأ بداية صحيحة لا بد من أن ن يصار إلى تأسيس مجلس أعلى للتعليم ليتولى مهمة الاصلاح التدرجي الشامل بعد تحديد الاهداف ووضع الخطط المحددة المعالم والمراحل والتوقيتات مع توفر وسائل القياس. هناك مجموعة من الأسباب التي استوجبت التفكير في إرساء خطة عاجلة داخل المنظومة التربوية التعليمية الوطنية، وذلك لإنقاذ المدرسة من مشاكلها الوظيفية ، وتخليصها من أزماتها البنيوية العويصة، والحد من التعثرات العديدة التي تتخبط فيها المؤسسات التعليمية على جميع الأصعدة والمستويات. وبالتالي، يمكن الإشارة إلى أسباب عامة وأسباب خاصة: الأسباب العامة: من المعلوم أن مجموعة من التقارير الدولية ترتب السودان ضمن الدول المتخلفة الفقيرة التي تنتشر فيها الكثير من الآفات السلبية الخطيرة كالفقر، والرشوة، ، وانتشار الأمية، ، وكثرة حوادث السير ، وانعدام الديمقراطية الحقة، والاستهانة بحقوق الإنسان المشروعة الطبيعية والمكتسبة. ومن ثم، أصبحنا بلدا من بلاد الأزمات والمفاسد والكوارث سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وتربويا. وهكذا، يتأرجح السودان على مستوى التنمية البشرية كما هو وارد في تقارير المنظمات الدولية المتخصصة ، بالنظر إلى الأوضاع المتدهورة التي تعرفها الدول الافريقية – ومن ضمنها السودان - على مستوى الدخل الفردي والصحة والتعليم ، بالإضافة إلى أوضاع حقوقية وثقافية واجتماعية وإنسانية متدنية. ومن ثم، فقد وضع تقرير التنمية البشرية عن قارة أفريقيا ، والذي أشرف عليه البنك الدولي بواشنطن، بلادنا على صعيد التعليم والتربية في مرتبة عربية وإسلامية وافريقية متأخرة ومتخلفة تتقدم علينا حتى جيبوتي . وحتى نبدأ عمليات الاصلاح فاعلة لا بد أن نعترف وبشجاعة بما جاء في التقرير الأممي وأن لا ندفن رؤوسنا كالنعام تحت التراب ونبدأ بالدفاع عن أنفسنا والهجوم على ما أوردته تلك التقارير. الأسباب الخاصة: تتمثل الأسباب الخاصة التي كانت وراء الدعوة إلى وضع خطة عاجلة في مجال التربية والتعليم في فشل كل الإصلاحات التعليمية السابقة ، وكساد النظريات التربوية على مستوى التنظير والتطبيق إما بسبب كونها شعارات سياسية جوفاء وفضفاضة، وإما لكونها نظريات جاهزة يحاول المسؤولون استنباتها في تربة مغايرة للتربة التي ظهرت فيها هذه النظريات. ومن بين هذه النظريات والشعارات: مبدأ تعميم التمدرس، والحث على تطبيق نظرية الأهداف، والأخذ بالنظرية التداولية، والإشادة بنظرية الجودة ، والدعوة إلى تمثل نظرية الشراكة ، واستلهام نظرية مشروع المؤسسة، واستنبات نظرية الكفايات، وتمثل نظرية الإدماج، والالتزام أخيرا بخصخصة المقررات الدراسية فكل مدرسة خاصة تضيف إلى المقررات الدراسية ما تضيف دون مرجعية ، وتحريرها تجاريا ... بالإضافة إلى فشل وزارة التربية والتعليم في تطبيق خطة محددة للآنقاذ والاصلاح والتطوير، كل هذه المتطلبات كانت وما زالت مطروحة ولكن ما من مستمع حتى ضرب بها عرض الحائط على الرغم من طموحها الكبير، ولم يتم تنفيذ معظم تعهدات المؤتمرات التي بدأتها الانقاذ في أول عهدها إلى حد الآن لأسباب ذاتية وموضوعية. ناهيك عن تردي التعليم هيكليا ووظيفيا، وضعف المنظومة التعليمية انعكس على مردوديتها الإنتاجية، ، وفشل هذه المدرسة في استقطاب التلاميذ ، والذين بدأوا يغادرون المدارس الحكومية نحو المدرسة الخصوصية بشكل لافت للانتباه. كما أصبحت المدرسة الخصوصية بدورها مؤسسة تجارية ، ليس لها من هم سوى تحقيق المكاسب المادية، وجني الأرباح الطائلة على حساب الأهداف النبيلة التي يرجوها المجتمع من منظومة التربية والتعليم. زد على تلك الأسباب ، ضعف المدرسة التي لم تستجب لطموحات المجتمع ، ولم تساير متطلبات الاقتصاد الوطني ، ولم توفر أطرا مؤهلة لإرضاء سوق التشغيل، ولم تشبع رغبات التلاميذ. وبالتالي، لن يجد فيها المواطن فضاء لتوطيد الديمقراطية التي بدأت خواتها الأولى بالانتخابات الاخيرة؛ إن المدرسة هي من تغرس القيم الحقة تعليما وتعلما واستحقاقا، ولا بد أن يجد فيها أيضا العدالة الاجتماعية المشروعة، بل صارت مدرسة للصراع الاجتماعي والتفاوت الطبقي والتنافس غير المشروع. كما أن هذه المدرسة تخرج لنا كل سنة آلافا من الطلبة غير مؤهلين لا تحتاجها السوق الوطنية. نستخلص من كل ما أوردناه أنه لا يمكن تنفيذ أي حطة عاجلة في ميدان التربية والتعليم إلا بتضافر كل الجهود قاطبة، إذ ينبغي أن ينخرط فيه جميع الفاعلين كجمعيات الآباء، والجمعيات المدنية، والأحزاب السياسية، والمنظمات غير الحكومية، ورجال السلطة، والفاعلين التربويين والإداريين، وقطاع الحكومة. ولا يتحقق هذا الإصلاح الاستعجالي أيضا إلا بالحوار البناء ، والمشاركة الهادفة، وتوفير الموارد البشرية، وتحصيل الإمكانيات المالية والمادية، وتطبيق النظرية الإبداعية، وتخليق الإدارة، وتحفيز المربي والإداري على حد سواء، وتشجيع المشرف التربوي ماديا ومعنويا، والإنصات إلى الأساتذة الأكفاء ، والأخذ بقراراتهم في مجال التربية والتعليم. بل يمكن القول: إن إصلاح المدرسة في الحقيقة ينبغي أن تتكلف به الجماعات المحلية والسلطات الإقليمية والجهوية كما هو معروف في الدول المتقدمة.ويمكن القول في الأخير: إن أي خطة عاجلة إذا لم ترافقها النية الحسنة، وإذا لم يواكبها الاجتهاد، والاستمرار، والتنفيذ الفعلي، والتطبيق الإجرائي الفوري، والتقويم الموضوعي، ستبقى حبرا على ورق يتأرجح بين شعارات سياسية جوفاء وأحلام وردية بعيدة عن الواقع. لا بد من أن نبدأ وبسرعة عملية انقاذ واصلاح لمنظومة التعليم حتى لا نصل فيها لمراحل كارثية يصعب معها الانقاذ والاصلاح ؛ إن جميع مشكلات بلادنا لها مسببات وجذور لها علاقة بالتعليم والتربية الوطنية. يتبع... abubakr ibrahim [[email protected]]