لم يعد العالم مسطحا، بالحدِّ الذي تصوره الصحفي الأميركي اللامع المؤلف توماس فريدمان في كتابه ذائع الصيت "العالم مسطحا: تاريخ موجز للقرن الواحد و العشرين " الذي استعرضه كاتب المقال فيحين نشره 2005م. حيث بدا أن فريدمانمحتفياً في بداية الألفية الثالثة بما وصل إليه العالم من تكنولوجية متقدمة دشنت لثورة اتصالات و تبادل تجاري بين دول العالم و شعوبه شكلت ما بات يعرف بالعولمة. كظاهرة انسانية غير مسبوقة، و لكنها تنبثق عن قوة هائلة أحادية الجانب و الهيمنة يستتبعها العالم بما تحدده من شروط استناداً الى تفوق غير منازع، إنها القوة الاميركية في قرن حاول المحافظون الجدد بوصمه بالقرن الاميركي! تصور العالم مسحطاً، أي دون حدود عازلة بفعل الاكتساح العولمي لدول العالم و ثقافاته يفسر في جانب آخر (فلسفياً) توقف أو نهاية التاريخ بحسب أطروحة فوكاياما بانتصار الرأسمالية و النموذج الليبرالي. يعتقد توماس فريدمان انه بانهيار جدار برلين الفاصل وقتها بين نظامين عالميين متعادين و اطلاق البرامج الحاسوب التطبيقيةكالويندوز كبرنامج مشغل لأجهزة حاسوب العالم أولى خطوات العولمة المسطحة. على الرغم من أن الجدار قد أدى الى توحيد ألمانيا إلا انه من جانب آخر مددَّ من نطاق حلف الناتو شرقاً ليضم بلدان كانت جزء من منظومة حلف وارسو بل و حتى ضمن الأراضي السوفيتية كدول البلطيق. و هو ما رأت فيه روسيا تهديداً مباشراً لأمنها القومي. و يستطرد بالقول وبعد انهيار سقوط جدار برلين اختفت معه أنماط الاقتصاد الموجه والبيروقراطيات العتيقة بشكليها الهرمي والرأسي والتدخل الغليظ للدولة، فإذا كنت غير ديمقراطي أو تعيش في مجتمعات غير ديمقراطية، فإنك حتماً في الوجهة الخطأ من التاريخ كما يزعم. فهو لا يرى شعوب أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي قبل انهيار الجدار، سوى أسرى من خلف الستائر الحديدية، ولم يكن مسموحا لهم بالطبع التواصل والتعاون اقتصاديا في أنظمة اقتصادية مغلقة. ووجد هؤلاء أنفسهم فجأة مشاركين في لعبة السوق الحر دون أن يبرحوا منازلهم بفضل ثورة المعلومات. فإذا بدأ تسطيح العالم كما يؤرخ لها فرديمان عشية الألفية الثالثة، فقد قلصت حجم العالم من الحجم الصغير إلى متناهٍ في الصغر وسطحت معه العالم وعوامل تغييرها البرمجيات وتطبيقاتها Softwares، بالإضافة إلى عوامل عدة حصرها في ما أسماه بالمُسطِّحات Flatteners منها سقوط جدار برلين ومتصفح نت سكايب وما وفره من اسثمارات هائلة في صناعة الألياف الضوئية، وتدفق البرمجيات وتطبيقاتها والموجات اللاسلكية في مجالات الاتصالات والهواتف المحمولة وهجرة خدمات الأعمال إلى دول عدة بأقل تكلفة. فإذا كانت العولمتان السابقتان تحركهما أوروبا وأمريكا أفرادا وشركات، فإن هذه الموجة الجديدة سيقودها أناس ليسوا بيضاً أو غربيين، إنهم مجموعة من الأفراد ساكني هذا الكوكب المسطح من مختلف الألوان والأذواق وفرضت تساؤلاً مختلفاً، كيف يمكنني التعامل عالميا مع الآخرين على طريقتي؟ ولكن هذا الواقع العوملي كنتاج لعولمة مبهرة النتائج لم يلغ، أو يخفف من غلواء العقائد العسكرية أو يمدن الفكر العسكري و يقلل من الأنفاق على ميزانيات الدفاع، و بالتالي يبطل الكثير من أجهزة منظومة الصواريخ بعيدة المدى أو يحد من فعالية رؤوسها النووية. هذه الآليات الأخيرة هي ما يعيد العالم الى شكله الذي صممته قوة متراكمة. عبر التاريخ. وبما أن العالم لا تدير صراعاته و تحكمها منظومة الافكار و السياقات المنضوية تحت ايدولوجيتها حصراً، فإن التناقض بين مستويات دول العالم المقسمة وفقاً للتفوق الغربي تبقي هذا التسطيح متعرجاً لا يستوي لتطبق عليه سياسات القوة المتفوقة. فقد أعاد الصراع مؤخراً بين روسيا و الغرب في أوكرانيا في ضم الاولى لشبه جزيرة القرم الى واجه الصراعات الدولية حدود العالم و القوة الأخرى التي غابت عن مقترحات في أن يكون العالم منطقة مفتوحة المجال. و ينظر المحللين الى عودة الصراعات التقليدية بطابعها شبه الامبريالي، و عودة لاستراتيجيات عسكرية باتت من الماضي كالمجال الحيويLebensraum و مناطق النفوذ و الجغرافية السياسية و حتىَّ نظرية التطور الدارونية التي طبعت صراعات الماضي، و بالتالي شرعت و أسست للتدخل بما تمليه المصالح الاستراتيجية لبعض الدول بعد عقود من اختفاء الشكل القديم لخارطة العلاقات الدولية، فاختفت دول و ظهرت أخرى. الموقف الروسي المتصلب في جزيرة القرم وسوريا دق نواقيس الخطر، بما استدعاه من موازنات قوة مهددة و مخيفة لمنظومات تعاهدت عليها العالم نظرياً حفاظا على سلمه كما تنبيتها مواثيق منظماته العالمية. فها هي روسيا بقيادة قيصرها الجديد بوتين تحاول "عملياً " استعادة النفوذ الروسي في أراض لها فيها مزاعم قيصرية سابقة لنسخة الحرب الباردة؛ يشدد عليها المفكر الاستراتيجي الروسي الإسكندر دوغين بما يسميه بالمستقبل الجيوبولتكي لروسيا كقوة برية تعمل على تجميع ما تفكك عقيب انهيار الاتحاد السوفيتي. إن العودة الى مناطق النفوذ الى مسرح العلاقات الدولية، لا تنحصر في التجاذب الروسي الغربي (الأميركي)، بل يتعدى ذلك الى دول و جماعات لا تؤثر بالمفهوم الدولي في إعادة صياغة منظومة النظام العالمي أو الانفلات من هيمنته الأحادية. ولكنها تبقى ذات دلالة قابلة للاستنساخ في مناطق أخرى من العالم. فالصين و نفوذها المتنامي و ايران و سوريا و جماعات أخرى لا تحكم دولاً لكنها منظمات تعد الأخطر على القوة الكبرى كقاعدة و حزب الله. تقف هذه القوى ليس في مواجهة العولمة المسطحة لحدوده و لكن ضد الأفكار التي تقف وراءها. فالدول التي انبثقت عنها قوى ناعمة مسطحة للعالم، تعيق هي نفسها هذا التسطح من طرف واحد خاصة في حال تداخلت مصالحها مع مطامعها الجيوبولتيكية. فالاتفاقيات بين الدول و الدولية التي وضعت حداً معقولاً من تخفيف حدة التوترات، أصبحت قابلة للتعديل أو الالغاء من وفق ما تفتضيه القوة و منطقها و هي الأخرى في تفاقم مستمر و سباق لاهث. فإلى حين أن تتسطح المنعرجات الوعرة، يبقى البحث عن عوامل كفيلة تضمْن الوصول المتساوي و الاستفادة المتوازنة من ظاهرة العولمة، من بين الهموم التي تؤرق القوى المسيطرة، وخاصة أن التحكم بالعالم على الطريقة التقليدية لم يعد ممكناً عملياً. و بما أن الكثير من التكتلات قد قل أو أختفى تأثيرها و إن بقيت شكلاً كمنظومة منظمة دول عدم الانحياز و المؤتمر العالمي الاسلامي و بالطبع جامعة الجدول العربية حتى بين الدول التي تشكل عضويتها. فطالما بقيت الدولة، الكيان العضوي و الدستوري بتعريف القانون و تفسير التاريخ وشواهد الجغرافيا فستظلالقوة العسكرية للدولة و مضامينها الوطنية قائمة بتعريف الحدود. فالعالم الذي يعينه توماس فريدمان، عالم تفصل بين دوله حدود على الرغم من وهمية خطوطها الكنتورية، إلا أنها تظل حداً فاصلاً بين الشعوب و الثقافات و الجيوش. فالبؤر المتأججة في عالم اليوم للحدود فيها أثر بارز لا تستجيب الى نداءات تحطيم الحدود لهبوب عواصف العولمة، فهناك أكثر من صراع يدور حول حدود متنازع عليها في افريقيا و آسيا و غيرها من مناطق رسمت حدودها قوى استعمارية سابقة و تركتها فاصلاً بين الجغرافيا و ثقافات الشعوب. ويبقى عالم توماس فريدمان عالماً افتراضيا إياً تكن درجة استوائه، فكثير من أطرافه بدأت تعاني من نتائج العولمة الاقتصادية المباشرة كالخصخصة والشركات العابرة للقارات في بلدان لا يقوى مواطنوها على العيش دون الاعتماد على دولهم المتمزقة Torn States، فهناك من ينظرون إليهم كمهدد يعمل على إزالة الخصوصيات الوطنية. الامر الذي يبطأ من تسطيح العالم كما تشهده أحداث اليوم بعد عقدين و نيف من تدشين العولمة المسطحة للكوكب الأرضي. نشر بجريدة الخرطوم 01/07/2014