عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. تحوّلات في السياسة الخارجية بعد أكتوبر 1964 : بعد اندلاع الهبّة الشعبية الغاضبة على الحكم العسكري وسقوط نظامه، اتفقت "جبهة الهيئات" على ما أطلق عليه "الميثاق الوطني"، والذي تضمّن عدداً من المباديء العامة، شملت تصفية الحكم العسكري، وإعادة الحريات العامة، واقرار استقلال القضاء، وإستقلال جامعة الخرطوم. من بين المباديء الرئيسة، أقرّ الميثاق الوطني ضرورة أن ترتبط الحكومة الانتقالية التي تم تشكيلها بموجب الميثاق الوطني، والتي جاءت في أعقاب انهيار حكومة الفريق إبراهيم عبود، بانتهاج سياسة خارجية ضد الاستعمار والأحلاف. (محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية في السودان:1900-1969 ، جامعة الخرطوم - 1987، ص238). لعل أوّل مظاهر التغيير بعد تولّي محمد أحمد المحجوب وزارة الخارجية في حكومة الثورة التي رأسها السيد سرالختم الخليفة (1964-1965)، وقعت في ملفات السياسة الخارجية، إذ تبنّى السودان تحولاً دبلوماسياً كاملا في أمّ ملفات علاقاته الخارجية، فأعلن تأييده لثوار الكونغو والذين لجأت قياداتهم إلى جوبا، كما أبدتْ دعمها للحكومة للحكومة الثورية في اليمن، وأيضاً أبدى دعماً للثوار الإريتريين الذين ظهرتْ قضيتهم في دائرة الضوء للمرّة الأولى(K.D.D. Henderson: Sudan Republic, London, 1965 ). سننظر في السطور التالية إلى تفاصيل ذلك التغيير الذي وقع في مواقف السودان وعلاقاته الخارجية، في أعقاب تولّي حكومة الثورة الأولى مقاليد الأمور في السودان. 1- عن مصر: إذا نظرنا إلى ملفِ العلاقات السودانية المصرية، سنرى رؤية تعكس عدم اطمئنانٍ من جانب مصر على مواقف السودان في عمومها. برغم أن مصر حققتْ باتفاقية مياه النيل عام 1959، مكاسب لها في ملف مياه النيل الذي أقلق القاهرة خلال فترة الحكومات الحزبية بعد استقلال السودان. لم تكن توجّهات مصر نحو أهدافها المعلنة للوحدة العربية قريبة إلى نظر الخرطوم، بل لا تجد تعاطفاً يُذكر، والخرطوم هي جغرافيا القرب، لا سوريا التي عقد معها عبدالناصر دولة وحدة سمّاها "الجمهورية العربية المتحدة" ، لم يكتب لها أن تثبت طويلا. أشار ك.د.د. هندرسن، الإداري البريطاني الذي خبر السودان لسنين، إلى أن ملف النزاع حول "حلايب" بقيَ متروكاً على منضدة الأممالمتحدة بلا حسم، وبصمتٍ مِن الطرفين عن إثارته (فيصل عبدالرحمن علي طه: مشكلة حلايب :تعقيب على مقال د. سلمان م. أ. سلمان، في موقع سودانايل الالكتروني 4فبراير 2014.) ، حين انتفضتْ الخرطوم على نظام عبود، جاء مقال محمد حسنين هيكل "بصراحة" بتاريخ 6 نوفمبر 1964 بعنوان "ماذا بعد في السودان؟" ( محمد حسنين هيكل : بصراحة - المقالات ، الأهرام، الستينات، 6/11/ 196(الانترنت) ، فكأنه يشكّك في الذي وقع من أحداث، ويلقي بتساؤلات فسّرها الشارع السوداني بعدم ترحيب من قبل القاهرة، إذ يعلم الناس أن قلم هيكل هو الصوت الرسمي للقيادة المصرية. هبّت جماهير الخرطوم واندفعت في تظاهرة عارمة، قوامها طلاب من معهد الخرطوم الفني (جامعة السودان الحالية) وهاجموا السفارة المصرية، ووقع عنف شديد، جرى خلاله تحطيم شعار الجمهورية المصرية، منحوتة النسر الشهيرة. إستعملتْ قوات الشرطة المسيل للدموع لتفريق المظاهرات العارمة، حول مباني السفارة المصرية في الخرطوم. خلال هذه الأحداث وبسبب مقاله الذي اثار غضب الشارع في الخرطوم، كتب الصحفي السوداني عبد الرحمن مختار مقالا ساخنا يرد فيه الصاع صاعين لهيكل وعنوان مقاله : " وماذا قبل في السودان". (خريف الفرح ، عبدالرحمن مختار، 1987، الخرطوم مطابع السودان للعملة ط2 ، ص290 ). 2- عن إريتريا: في نظرةٍ إلى ملامح السياسة الخارجية التي اتبعها الحكم العسكري إزاء القضية الإريترية، نجد رصداً مفصّلاً وتقييماً سياسياً، ورد في كتاب "ثورة شعب" ، وربّما هو الإصدارة الوحيدة من نوعها، وقد نشرها الحزب الشيوعي السوداني بعد فترة وجيزة من اندلاع الثورة، ووثقت لمظاهر المقاومة للحكم العسكري، والتي لعب فيها اليساريون، وبالأخصّ عناصر من الحزب الشيوعي السوداني، دوراً بارزاً في إذكائها. رصدتْ الإصدارة بعض البيانات التي أصدرها الحزب الشيوعي السوداني، تناولت بالانتقاد مواقف الحكم العسكري من قضية الثورة الإريترية، وذلك حين قام النظام العسكري في أكتوبر 1963 باعتقال عددٍ من الثوار الإريتريين وقدمهم لمحاكمات عاجلة، وجرى بعدها تسليمهم للسلطات الإثيوبية، وقد وصف البيان الإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي، بأنّه جلاد الشعب الإريتري.( ثورة شعب ، إصدار الحزب الشيوعي السوداني، الخرطوم، 1965، ص 196 (. ظلتْ الحكومة العسكرية تلتزم سياسة التضييق على ثوار إريتريا، تودّداً لنظام الإمبراطور هيلاسلاسي. بعثت نقابة المحامين السودانيين، إثر ذلك بمذكرةِ احتجاجٍ قوية اللهجة للحكومة العسكرية، تشجب التضييق على ثوّار إريتريا، ولكن لم تكن تلك الحكومة على استعداد للإستجابة لأيّ مذكرات من هذا النوع. لعلّ العلاقات السودانية الإثيوبية كانت في أفضل مستوياتها في تلك السنوات، خاصة وأن علاقات صداقة قوية قد ربطت بين الفريق عبود والإمبراطور الإثيوبي، تلكم السنوات.( ثورة شعب ، إصدار الحزب الشيوعي السوداني، الخرطوم، 1965، ص 196). لقد وقع تحوّل كبير في سياسة السودان تجاه الثورة الإريترية بعد نجاح ثورة أكتوبر وسقوط النظام العسكري، وتلقى الثوار دعما قوياً من السودان، كما استقبلت الخرطوم مساعدات جمّة مررتها للثوار الإريتريين وقد جاءت من أطرافٍ عربية متعاطفة. 3- عن اليمن: أما عن حركة التحرير في اليمن الجنوبي، فلم يكن النظام العسكري الحاكم في الخرطوم، يتعاطف البتة مع حركة المناضلين في اليمن الجنوبي فحسب، بل مضى إلى أكثر من ذلك وتعاون مع بريطانيا لمحاصرتهم وقطع دابر ثورتهم، كما سبق أن أشرنا هنا. وهكذا في الوقت الذي اتسعتْ فيه المقاومة ضد الوجود البريطاني في اليمن الجنوبي، وثق نظام الخرطوم العسكري من صلاته مع لندن، وأبرم اتفاقاً مع الخرطوم سمح بموجبه للطائرات البريطانية – مدنية وعسكرية- بعبور الأجواء السودانية، مكايدة لم تعجب "العرب التقدميين" ممّن وقف مؤيداً نضال الإريتريين ضد السيطرة الإثيوبية، والنضال اليمني في الجنوب العربي. الذي يؤكد ميول نظام الخرطوم العسكري في الوقوف مع بريطانيا ضد الثوار في اليمن الجنوبي، ما أشارت إليه صحيفة "القارديان" بتاريخ 26/5/1964- أي قبل خمسة أشهر من الإطاحة بالنظام العسكري الحاكم في الخرطوم، أن الحكومة البريطانية تأمل أن تتمكن من عقد اتفاقية تؤمّن حق مرور الطائرات الحربية والمدنية البريطانية عبر الأجواء السودانية، خلال السنوات الخمس القادمة، وأن اتفاقا قد تمّ بالفعل مع السودان على ذلك.( ثورة شعب ، إصدار الحزب الشيوعي السوداني، الخرطوم، 1965، ص 196 ). لاشك أن زيارة الفريق عبود، رأس النظام العسكري في الخرطوم إلى لندن، ثم زيارة الملكة اليزابيث الثانية إلى الخرطوم، والتي كان مقدّراً أن تتم وعبود على دست الحكم، لكنها تمّت بعد سقوط نظامه، هما الزيارتان اللتان تعلقتا بأمر التعاون الوثيق بين لندنوالخرطوم، لمحاصرة ثورة اليمن الجنوبي. لم تخرج زيارة الملكة إلى الخرطوم بعد وقوع ثورة أكتوبر 1964 من طبيعتها المراسمية، ردّاً على زيارة الفريق عبود رئيس السودان السابق إلى لندن، في أوئل عام 1964. قبل نهاية عام 1965، أوقف السودان التسهيلات التي كانت تقدم للطائرات البريطانية العابرة إلى اليمن الجنوبي. 4- عن الجوار الأفريقي: ولقد كان تقييم اليسار السوداني– إذا اعتمدنا ما ورد في كتاب "ثورة شعب" تعبيراً عن اتجاهاته- أنّ ما قد رأيناه في السطور السابقة من ايجابيات أنجزتها الدبلوماسية في القيام بأدوار للتوسّط في محيط السودان العربي والأفريقي، هو وجه سلبي اختصر دور دبلوماسية السودان في القيام ب "وساطة بين الشعوب والاستعمار، لصالح الاستعمار"، حسبما ورد في الكتاب، بل يمضي ليُحمّل السودان " مسئولية أساسية في ضياع استقلال الكونغو وتفتت وحدته وفي اغتيال البطل الأفريقي باتريس لوممبا " .( ثورة شعب، ص 55 ) حينَ انعقد مؤتمر المائدة المستديرة لبحث أزمة جنوب السودان، في 16 مارس1965في الخرطوم، وشارك فيه ممثلون من الجزائر وغانا وكينيا ونيجيريا وتنزانيا ويوغندا ومصر، كان ذلك تحولاً واضحا في اتباع سياسة ترتضي الشفافية في ايجاد حلول لمشاكل، كان الظن خلال الحكم العسكري، أنها من المحظور مناقشتها، بحجّة أنها من الشئون الداخلية. أشار محمد عمر بشير إلى أن مشاركة ممثلين من هذه البلدان في تلكم الاجتماعات، يعدّ تعبيراً عن الأهمية الكبرى التي علقتها الحكومة السودانية، التي تشكلت بعد انهيار الحكم العسكري، على قرارات المؤتمر وعن رغبتها الأكيدة في إشراك الأقطار المجاورة في مساعي ايجاد حل لمسألة الجنوب. ويلاحظ أنه لم تتم دعوة ممثلين لإثيوبيا ولا للكونغو، وذلك برغم وجود أعداد كبيرة من اللاجئين السودانيين في هاتين الدولتين. ذلك يعد مؤشراً إلى ضعف الثقة من طرف الدولتين في القيادة الجديدة في الخرطوم.( تاريخ الحركة الوطنية في السودان:1900-1969"، ص242 ) أوضح السفير والأكاديمي د. محمد أحمد عبد الغفار، أن مساندة الكونغو لحركة التمرّد التي كانت تنادي بانفصال السودان، جاءت كرد فعل لمساندة السودان المعلنة لثوار الكونغو. بعد أكتوبر 1964، قبل السودان استقبال الثوار أتباع "أنطوان جيزنجا"- خليفة لوممبا- على أراضيه، كما عمل على شراء أسلحة لهم من أطراف في الإقليم.( مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب والأقليات في القانون الدولي العام، محمد أ.عبدالغفار– دار هومه -الجزائر 2001، ص 110-111) لقد تغير الموقف الكونغولي وضعف تأييده لحركة "أنيانيا"، خاصة بعد تولي محمد أحمد محجوب رئاسة الحكومة الوطنية الثانية في عام 1965 . ويرجح جوزيف لاقو، أحد كبار زعماء جنوب السودان، أن التعاطف الغربي تراجع بعد ذلك، إذ لم تكن هنالك من حاجة للتصدى لاتساع نفوذ الشيوعيين في الخرطوم. فقد تم إيقاف الامدادات العسكرية من طرف الكونغو لحركة التمرّد، بايعاز من أطراف غربية، كما لاحظ زعيم حركة "أنيانيا" ، جوزيف لاقو. )Lt .Gen. J. Lagu,(ret.):Sudan Odyssey Through A State From Ruin to Hope, - Khartoum, 2006). في حقيقة الأمر أنّ سند دول الجوار قد زاد إثر وضوح تأييد حكومة ثورة أكتوبر للحركات المناوئة للنظم القائمة في الكونغو وإثيوبيا ويوغندا. وهكذا، جاء دعم إثيوبيا لمتمرّدي جنوب السودان كردّ فعل لدعم السودان المعلن والسافر لثوار إريتريا، وذلك في أواسط سنوات الستينات من القرن العشرين..( مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب والأقليات في القانون الدولي العام ، م. أ. عبدالغفار، ص 314 ). ويؤكد هذا الزّعم ما أورده عبدالغفار نقلا عن الأكاديمي د. محمد بشير حامد من: " أن السياسة الراديكالية التي اتبعتها حكومة أكتوبر الانتقالية، أفزعتْ النظم المحافظة في الدول المجاورة. فكلّ من حكومة الكونغو وتتشاد وإثيوبيا، لها مشكلات تتعلق بالأقليات، الأمر الذي جعل رد فعل هذه الحكومات على ما اعتبرته دعماً ايجابياً من جانب السودان للجماعات المناوئة في بلادها ، هو تقديم المساعدة العلنية لحركة التمرّد في جنوب السودان المناوئة للحكومة في الخرطوم." (مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب والأقليات في القانون الدولي العام ، ص 314 ) بعد أسابيع قليلة من ثورة اكتوبر، جاء اقتراح من حزب "سانو" Sudan African National Union (SANU)) وهو أكبر أحزاب الجنوب التي تأسست خارج البلاد، لعقد مؤتمر يضم القيادات الشمالية والجنوبية، بقصد ايجاد حل لأزمة جنوب السودان، عرف فيما بعد بإسم "مؤتمر المائدة المستديرة". قبلت الخرطوم الاقتراح ولكن ثار جدل طويل حول مكان انعقاده : الخرطوم أم جوبا ؟ ولكن آخر الأمر، وافق الجميع ولأسباب لوجستية على عقده في الخرطوم.( مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب والأقليات في القانون الدولي العام، ص 312). سافر وفد من الجنوبيين المعتدلين بينهم "داريوس بشير" و"لوباري رامبا" و"ابل ألير" لاقناع قيادات حركة "الأنيانيا" في الكونغو وفي يوغندا، للمشاركة في مؤتمر المائدة المستديرة. تزامنت تلك الرحلة مع أحداث الأحد الدامي في 6 ديسمبر1964، والتي ذهب ضحيتها عدد مهول من أبناء جنوب السودان في الخرطوم، في صدامات عنصرية بغيضة غير مسبوقة بين الشماليين والجنوبيين. وفي أوائل عام 1965 وبموافقة رئيس الوزراء في السودان، قام وفد سوداني يضم الوزيرين عابدين اسماعيل و"أوزبوني منديري"، ، بزيارة إلى العاصمة اليوغندية كمبالا، في مسعى جاد لإقناع قيادات المتمرّدين هناك بالمشاركة في مؤتمر المائدة المستديرة. حقق الموفدان نجاحاً معقولاً وحصلا كذلك على موافقة في كمبالا على ترحيل اللاجئين السودانيين. ( مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب والأقليات في القانون الدولي العام، ص 312 ) بدا واضحاً أن المواقف اليوغندية أخذت تلين إزاء الخرطوم. بذلتْ الحكومة اليوغندية جهداً في اقناع القيادات الجنوبية المتردّدة في قبول المشاركة في المؤتمر، وقد وجد ذلك الموقف إشادة من الأحزاب السودانية في الخرطوم، إذ عكس ترحيباً بتوجّهات الخرطوم الجديدة بعد إزاحة النظام العسكري إثر انتصار ثورة 21 أكتوبر 1964 في الخرطوم .. يتبع.. * نشرت هذه الورقة في الكتاب التذكاري بعنوان: 50 عاما على ثورة أكتوبر 1964: نهوض السودان الباكر ، لندن (2014)