ما يحدث في العالم العربي أمر مؤسف جدا، ولا يعتقد أحد أنها لحظة وعي تعقبها ظروف أفضل بعد أن تسقط الشعوب أنظمتها الدكتاتورية، ذلك أن الحقيقة هي أن سقوط هذه الأنظمة ليس بالأمر السهل، خاصة أن الأنظمة لم تؤسس نفسها على رئيس أو أسر كما يعتقد الكثيرون بل أسست نفسها على نخب اقتصادية وبطانات عسكرية وكلها تعمل في الخفاء ولها مصالح تجعلها نحرص على استمرار هذه الأنظمة، وكما قلت سابقا فإن هذا الواقع يستمر لأن معظم الناس لا يشعرون بالأمان في إطار نظم الحكم السائدة إذ يعتقدون أن هذه النظم هي مجرد مجال يتيح لهم نهب الأموال العامة من أجل تهريبها إلى حسابات في دول خارجية. وللأسف فإن السلطات السياسية تفعل ما تستطيع من أجل أن تسيطر على نظم الحكم وتواصل الاستمرار فيها، والدليل على ذلك ما يحدث في سورية في الوقت الحاضر، إذ لا يستطيع أحد أن يتصور أن هناك نظام حكم تصل به العنجهية حد قتل شعبه بهذه البشاعة، وهو مع ذلك يتوقع أن يستكين له الشعب لتستمر الأمور على النحو الذي كانت عليه. ونلحظ في الوقت ذاته أن ما يجري في العالم العربي الآن خاصة في ليبيا وسورية واليمن يتم وسط صمت كامل من الأنظمة العربية أو وسط تعليقات يفرضها الحرج، أما الجامعة العربية فهي كما ظلت دائما جسما ميتا لا حراك فيه، ومن الداعي للسخرية أن أمينها العام السابق عمرو موسى عندما ترك منصبه طلب من الأمين العام الجديد أن يواصل الإنجازات التي تحققت في عهده دون أن يحدد ما تلك الإنجازات التي تحققت، والحقيقة هي أن الجامعة العربية فاقدة للفاعلية السياسية لأنها لا تخدم غرضا محددا بل إن الغرض الذي أنشئت من أجله تلاشى خاصة أنها عندما أنشئت في عام ألف وتسعمئة وخمسة وأربعين كان الغرض من إنشائها خدمة مصالح أجنبية، وهكذا لم تستطع الجامعة العربية أن تطور نفسها، أو تحسن صورتها من أجل أن تستقطب الاهتمام العربي، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن معظم العرب لا يعتبرون الجامعة العربية مؤسسة تخصهم، فهي قد اتخذت من القاهرة مقرا لها، ولا غضاضة في أن تتخذ من أي مكان مقرا لها، ولكن الغضاضة في أن تحتكر مصر أمانتها العامة، وهذا تفكير ساذج ذلك أن كون الأمين العام دائما من مصر لا يؤدي بالضرورة إلى فرض مصر إرادتها على الجامعة العربية بل يؤدي بصورة تلقائية إلى انصراف الدول العربية عن هذه الجامعة التي هي في نظرهم مؤسسة مصرية خالصة، ولا يعني ذلك أن الرجال الذين يتولون أمانة الجامعة ليسوا من الرجال الأكفاء وإنما يعني فقط أن تداول منصب الأمانة العامة بين دول كثيرة سيجعل الدول العربية تحس بأنها جزء من هذه المؤسسة، وفي استمرار الوضع كما هو يشعر العرب بأن الجامعة هي مؤسسة تخص دولة واحدة وبالتالي لا داعي لأن يهتم بها الآخرون، ولا نعني بذلك أن تلك هي كل المشاكل التي تواجهها دول الجامعة العربية، ذلك أن الكثيرين يشعرون في الوقت الحاضر أن الجامعة العربية ليست مؤسسة تخدم مصالح الشعوب العربية وإنما هي مؤسسة ظلت تمثل الحكومات العربية ولا تهتم مطلقا بهموم الشعوب العربية، وحتى هذا الجانب في الوقت الحاضر قد تلاشى ولم تعد الجامعة العربية تلعب أي دور في الحياة السياسية في العالم العربي بدليل أن الجامعة لم تحاول التدخل في الأحداث التي تجري في هذا العالم لأنها في الأساس لا تملك أي سلطة في أي بلد عربي، كما أن معظم الحكومات لا تريد من الجامعة أن تتدخل في هذه المرحلة بكونها لا تعرف ما ستسفر عنه الأحداث في العالم العربي، ولا يقتصر الأمر على الجامعة العربية أو على الحكومات التي تمثلها، بل يتجاوز الأمر إلى الشعوب العربية نفسها، ذلك أن القلق في العالم العربي لا تسببه فقط الحكومات التي تقتل الشعوب بل تسببه أيضا الشعوب التي لا تعرف على وجه التحديد ما الذي تريده على بدقة ، ذلك أنه إذا نظرنا إلى معظم التحركات في داخل هذه الشعوب العربية وجدنا أنها تشكل قلقا للحكومات بسبب عدم وجود رؤى مبلورة تلتقي عندها الشعوب والحكومات، فالذي تعرفه في العالم العربي هو وجود نوعين من الحكم، أنظمة شمولية أساسها الانقلابات العسكرية وأنظمة تقليدية هي وليدة التاريخ الثقافي للعالم العربي ،وهذا الوضع قد لا يختلف عما هو معروف في كثير من دول العالم، لكن الاختلاف الوحيد هو وجود عقد اجتماعي في كثير من دول العالم يتأسس عليه نظام الحكم بحيث لا يكون هناك قلق سواء عند الحكام أو عند الشعوب وليس ذلك هو واقع الحال في العالم العربي، الذي تتأسس العلاقة بين الحكام والمحكومين فيه على أسس عدائية، وإذا كان من السهل أن نرى عيوب أنظمة الحكم في العالم العربي فليس ذلك هو واقع الحال بالنسبة لعيوب طلاب التغيير، إذ هؤلاء يأتون في العادة بنظريات فوقانية قد لا تكون لها علاقة بواقع الحال أو بما يمكن أن يتحقق في العالم العربي، فنحن نجد في بعض الأحيان أحزابا تقام على أسس قبلية أو عقدية أو أيديولوجية تدعو لأفكار ليس هناك دليل على أنها قابلة للتحقيق في العالم العربي، ويمكن أن نأخذ لذلك وجود أحزاب شيوعية ما زالت تعمل من أجل إقامة نظم شيوعية دون أن يسأل القائمون على هذه الأحزاب كيف يتمسكون بعقيدتهم الشيوعية في وقت سقطت فيه أكبر دولة شيوعية في العالم بسبب الفشل، ومن جانب آخر فإن الذين يدعون إلى نظم تتأسس على العقيدة لا يستطيعون أن يخبرونا عن النموذج الذي سيتبعونه، في وقت ليست فيه هناك دولة مؤسسة على هذا الأساس. ومؤدى ما نهدف إليه هو القول يجب أن يكون هناك فكر رصين في العالم العربي ،فكر يعرف الأسس التي تقوم عليها الدول والكيفية التي يتحقق من خلالها التواؤم بين سائر طبقات المجتمع بحيث يأخذ سائر المواطنين حقوقهم الكاملة ولا يكون هناك قلق وسط الطبقات التي تتوافر لها ظروف الحكم . وما يجب أن ينطلق منه الجميع هو أن الهدف في الدولة ليس هو الحكم فقط، بل إدراك الجميع أن الدولة هي كمونولث تعود مصلحته إلى سائر المنتمين إليها حكاما كانوا أو ومحكومين، ويجب في ضوء هذا الفهم أن يلتزم الجميع بواجباتهم تجاه هذا الكمونولث، ومتى أدرك الناس ذلك عملوا متعاونين من أجل المحافظة على مصالحهم المشتركة. ولا نشك في ضوء ما ذهبنا إليه، أن العالم العربي له أيضا خصوصيته، لأن نظرية الكمونولث التي ذهبنا إليها قد تكون مناسبة بالنسبة للدول محددة المعالم والصغيرة نسبيا ولكن العالم العربي على الرغم من عدم توحده فهو يعيش واقعا مختلفا، إذ أنه يتأثر بجميع ما يجري في أجزائه المختلفة وذلك ما يجعل النظر إلى مشكلاته مختلفا جدا، فالعالم العربي قد لا يكون موحدا من الناحية السياسية وليست هناك قواعد سياسية أو اقتصادية يمكن أن يستعين بها في التوحيد في ضوء التوجهات السياسية السائدة ولكن المؤكد في الوقت ذاته أن هناك كثيرا من العوامل الأخرى التي تجعل هذا العالم يعيش في حالة وحدة غير سياسية بحيث تتأثر جميع مناطقه بما يجري في بعضها بعضا ، وذلك ما يجعل سائر العرب يحبسون أنفاسهم عندما يرون التطورات التي تحدث في أماكن مختلفة من هذا العالم. و لعله من السابق لأوانه أن نتحدث هنا عن وحدة محتملة بين أجزاء هذا العالم العربي لأن ذلك من المستحيل مع وجود مساحة كبيرة لهذا العالم العربي، وفشل في إدارة الدولة القطرية، فكيف نطمح أن تكون هناك دولة موحدة يصعب التوافق على قيادتها، وحتى لوتم الاتفاق على ذلك فسيكون من الصعب إدارة هذه الدولة بواسطة نظام سياسي متخلف لم يثبت أنه قادر على اتخاذ أساليب النظم الحديثة في إدارة شؤون الدولة، وما يصادفه العالم العربي في مجمله تواجهه أيضا جامعة الدول العربية، ذلك أن ضعف هذه الجامعة هو صورة أخرى من صور الضعف الذي يعيش فيه العالم العربي، وبالتالي لن يكون هناك أي دور للجامعة العربية في تصحيح المواقف السياسية خاصة في ليبيا وسورية واليمن، وهنا يجب أن تتوقف الشعوب العربية لتسأل نفسها عن الأسباب التي تجعل هذه الأنظمة البالية تستمر في الحكم مع إجماع الشعوب العربية على عدم رغبتها في استمرارها. المصدر: القدس العربي 11/8/2011