إن النظم الديمقراطية تقوم على ركيزتين هما الحكومة والمعارضة التي تمثل حكومة الظل وفي نظم الحكم البرلمانية التي مرت على السودان شواهد على ذلك وإن رئيس الوزراء الذي ينتخبه البرلمان يوازيه زعيم المعارضة الذي يحصل على المرتبة الثانية عند إجراء الاقتراع داخل البرلمان وقد توجد هيئة أو هيئات برلمانية أخرى معارضة. وإذا عدنا للوراء فإن الجمعية التشريعية التي كونت في عام 1948م باختيار بعض نوابها بالتعيين مع اختيار آخرين بالانتخابات غير المباشرة وبالتزامن مع تكوينها عين ثلاثة وزراء سودانيون هم الأميرلاي عبد الله بك خليل وزير الزراعة ودكتور علي بدري وزير الصحة والأستاذ عبد الرحمن علي طه وزير المعارف وزعيم الجمعية التشريعية ورغم عدم وجود زعيم للمعارضة إلا أن المضابط تثبت أن تلك الجمعية شهدت وجوداً للرأي الآخر. وعند افتتاح البرلمان الأول في عام 1954م انتخب السيد إسماعيل الأزهري رئيساً للوزراء وأضحى منافسه السيد محمد أحمد محجوب ممثل الجبهة الاستقلالية زعيماً للمعارضة ولم يعلن انضمامه رسمياً لحزب الأمة إلا في يوم 1/1/1956م، عقب رفع العلم الوطني وإعلان الاستقلال وكان السيد مبارك زروق وزير المواصلات هو زعيم المجلس المنافح والمدافع عن الحكومة داخل البرلمان وفيما بعد أصبح أول وزير للخارجية بعد إعلان استقلال السودان. وفي عهد الحكم العسكري النوفمبري كون في عام 1963م برلمان صوري بالتعيين والانتخاب ولم يكن فيه زعيم للمعارضة، ولكن كان متاحاً للأعضاء إبداء آرائهم في القضايا المطروحة. وفي الجمعية التأسيسية التي أُنتخبت في عام 1965م بعد ثورة اكتوبر انتخب المحجوب رئيساً للوزراء وأضحى الأستاذ حسن الطاهر زروق زعيماً للمعارضة قبل أن يطرد النواب الشيوعيون من البرلمان وكان الأستاذ الرشيد الطاهر بكر زعيماً للكتلة البرلمانية المعارضة الممثلة لجبهة الميثاق الإسلامي قبل أن يستقيل منها وينضم للحزب الوطني الاتحادي. وفي الجمعية التأسيسية الثانية انتخب المحجوب في عام 1968م رئيساً للوزراء وأضحى الأستاذ أحمد إبراهيم دريج زعيماً للمعارضة على رأس هيئة برلمانية تضم أكثر من أربعين نائباً وبجانبهم كانت توجد هيئة برلمانية معارضة أخرى برئاسة الشيخ الجليل صادق عبد الله عبد الماجد ممثل جبهة الميثاق الإسلامي ومعه ثلاثة نواب آخرين هم المشايخ محمد محمد الصادق الكاروري ومصطفى سليمان أبكر وموسى حسين ضرار وبجانبهم توجد هيئة برلمانية معارضة ثالثة قوامها نائبين فقط هما الأستاذ عبد الخالق محجوب والأستاذ الحاج عبد الرحمن ممثل دائرة عطبرة وأقام اليساريون تحالفاً باسم القوى الاشتراكية كان يضم الشيوعيون والقوميون العرب والبعثيين والناصريين وكانوا يجاهرون بعدائهم لما كانوا يطلقون عليه القوى الرجعية المتمثلة في تقديرهم في جبهة الميثاق الإسلامي بكل مكوناتها، أخوان مسلمين، وأنصار سنة وصوفية، ومعهم وقبلهم ما كانوا يطلقون عليه الأحزاب التقليدية الطائفية الرجعية. وفي عهد مايو كُون مجلس شعب كان عمره ستة أشهر وقام بإعداد وإجازة دستور عام 1973م وكان المجلس برئاسة الأستاذ النزير دفع الله وكان دكتور جعفر محمد علي بخيت وزير الحكومات المحلية هو رائد المجلس وكان الأستاذ بدر الدين سليمان هو رقيب المجلس وكونت بعد ذلك أربعة مجالس شعب في عهد مايو هي المجلس الثاني والمجلس الثالث والمجلس الرابع والمجلس الخامس وكان لرئيس الجمهورية الحق في تعيين 10% من عضوية المجلس، وقد حل الرئيس الأسبق نميري كل تلك المجالس دون أن يكمل أي واحد منها نصف دورة!! وفي الجمعية التأسيسية التي كونت بالانتخابات الحرة المباشرة في عام 1986م تم انتخاب السيد الصادق المهدي رئيساً للوزراء وأصبح منافسه الأستاذ علي عثمان محمد طه ممثل الجبهة الإسلامية القومية زعيماً للمعارضة وكان على رأس هيئة برلمانية قوامها واحد وخمسين نائباً وبجانبهم كانت للشيوعيين هيئة برلمانية معارضة مكونة من الأستاذ محمد إبراهيم نقد ودكتور عز الدين علي عامر وجوزيف مديستو الذي فاز في إحدى دوائر الخريجين في الجنوب ونائب رابع ترشح مستقلاً وإنضم لهيئتهم البرلمانية الرباعية. وفي أواخر ذلك العهد كون بعض الجنوبيين هيئة برلمانية معارضة، وكان المتوقع بعد ظهور نتائج عام 1986م أن تتحالف أحزاب الجبهة الوطنية الثلاثة الأمة والإتحادي الديمقراطي والجبة الإسلامية القومية وأن يكون اليساريون في الكفة الأخرى ممثلون للمعارضة ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث وحدثت تحالفات فيها تناقضات واستمر التجمع الوطني الذي كان يجمع حاكمين ومعارضين رؤاهم الفكرية متباينة وجمعهم ما أطلقوا عليه برنامج قوى الانتفاضة وكان اللعب على كل الحبال المتناقضة هو من أسباب سقوط ذلك العهد. وإن العهود الثلاثة التي أتت بعد انقلابات عسكرية وهي نوفمبر ومايو ويونيو قد دخلت في مواجهات حادة مع معارضيها ولا يتسع المجال للخوض في التفاصيل وبعد انتفاضتين شعبيتين عارمتين سقط نظام نوفمبر في اكتوبر عام 1964م وسقط نظام مايو في ابريل عام 1985م ولا ينكر أحد أن للثلاثة نظم إيجابيات وسلبيات وقد تأتت في هذا العهد ذات دوافع الانتفاضة الشعبية ولكنها لم ولن تحدث لعدة أسباب منها أن هذا النظام قد دغدغ عواطف الشعب الدينية عند مجئيه ولا يمكن محاربة التوجه الإسلامي وكان عنيفاً في مواجهته للآخرين لا سيما في سنواته الباكرة واستطاع إستئناس وترويض النقابات والإتحادات ويجعلها أدوات طيعة في يده ولذلك لم تقم اضرابات وسعي للسيطرة على الحركة الطلابية ولذلك لم تحدث اضطرابات طلابية، كما حدث في العهدين السابقين وقد أغدق على كثير من المعارضين وبالأحرى على كثير من قياداتهم أموالاً طائلة بنسب متفاوتة وفق مكانة ووضعية كل منهم تحت غطاءات مختلفة وفُتحت لآخرين منافذ أجنبية وأخذت الأموال تنهمر على بعضهم كالمطر من المنظمات الغربية الأمريكية والأوروبية وغيرها تحت رايات النضال الزائف بمبررات عديدة وعليه فإنهم الآن في وضع لا يرضون بغيره بديلاً وإن التحالف المعارض الذي يجمعهم رغم عداواتهم التاريخية وتبايناتهم الفكرية يسعي كل منهم لاستغلاله لتحقيق أجندته والذين كانوا ينتمون في الماضي للجبهة الوطنية يريدون اتخاذه عصاة عز يهزون بها في وجه النظام ليفاوضهم ويصل معهم لمبتغاهم، أما المنتمون لتيارات اليسار والعلمانيون فإنهم يريدون استغلال أولئك والتعامل معهم كمغفلين نافعين. وقد ظهر ما يضمرونه عندما استجاب هؤلاء للدعوة التي وجهت لهم لحضور اللقاء الحاشد بقاعة الصداقة إذ وصفوا اللقاء بأنه تمهيد لتحالف يميني يميني كما وصوفه أي أن تحالفهم مع ما يسمونه باليمين هو تحالف مرحلي انتهازي قشري. وتؤكد كل المؤشرات أن الشمس ستعود لمستقرها وستتم المفاصلة بين المكونات القديمة للجبهة الوطنية القديمة من جهة وبين تيارات اليسار والعلمانيين الآخرين من جهة أخرى ولعل تحالف المتناقضات يحتضر الأن إيذاناً بطي صفحة مرحلة وفتح صفحة مرحلة جديدة. نقلا عن صحيفة الانتباهة 5/2/2014م