حبس العراقيون أنفاسهم وهم يتوجهون الى صناديق الاقتراع بحذر شديد. وحبسوها مرة اخرى وهم يتابعون نتائج الانتخابات وما كان يدور حولها من لغط وجدل. فالطريق الى موقع الاقتراع لم يكن آمنا ولا حتى مواقع الاقتراع نفسها ناهيك عن الطريق اليها. لقد كثرت تهديدات القوى الظلامية واعتداءاتها وتفجيراتها مع بزوغ فجر العملية الانتخابية حتى اصبح الذهاب الى موقع الاقتراع مجازفة يحتاج القيام بها الى شجاعة استثنائية. ولكن الشعب العراقي شقّ طريقه وعبر من كل الطرق المؤدية الى مواقع الاقتراع ببسالة واقترع لصالح العراق الجديد في انضباط كذب كل التوقعات. كان العراقيون وهم يفعلون ذلك، يكتبون عهدا مع فجر جديد يضعون به عهود البطش الدموي الصدامي خلفهم مرة واحدة والى الابد. صحيح انهم دفعوا ثمنا غاليا جدا وغاليا جدا لكى يتخلصوا من حكم حزب البعث الدموي الذي خلف الملايين من القتلى والجرحى والمفقودين من اهل الدار ومن اهل الجوار ثم مضى الى مزبلة التاريخ كما تمضى كل الاباطيل السابلة، وتصبح أثرا بعد عين. كانت الرغبة في التغيير الشامل هي المحفز الاقوى على تحمل مشاق ومخاطر الطريق. وفعلها العراقيون في هدوء وانضباط وقالوا للدنيا، كل الدنيا، كذب المنجمون الاعلاميون المثبطون، وكذب معهم عازفو طبول التشكيك حين اخرجوا انتخابات ذات مصداقية في حدود المستطاع الممكن . لقد كتب العراقيون الفصل الاول في كتاب العراق الجديد في يومهم ذاك في لحظتهم تلك. وغدا تمضى قوافل الانبعاث وتجعل كل السبل سالكة الى واقع جديد تكون الحوزة فيه لانسان العراق واجندته الوطنية الخاصة به وحده. وسوف تنمحى الاجندات الدخيلة من دفاتر العراق كما ينمحى كل باطل لا يقوم على اساس. لقد كانت الفتنة الطائفية وما زالت هي المهدد الاعظم للمكاسب التي حصل عليها شعب العراق بثمن غال. فقد كان مثيرا للدهشة ان ينفتح القمقم بعد طول رقاد على ذات الارث المتدني القديم الذي ظل هناك بلا لزوم على مدى القرون. لقد اكتشف العراقيون انه بقدر ما فتك النظام الدموي الباطش وبقدر ما اسال من دماء بقدر ما ترك اللوحة القديمة على حالها البئيسة التي كانت عليها. ورأى العالم أن عراق صناجة العرب ما زال عائشا على حافة الوجود وقد مضت من حوله القرون .بل وما زال الجنون الطائفي القديم يراوح في مكانه القديم: القتل على الهوية الطائفية ما زال قائما. والتمترس خلف الاباطيل القديمة انتصارا لهذا المذهب او ذاك ما زال في مكانه، تمجيدا لأرث خلف لنا كل ذلك الحزن القديم باسم الدين البرئ. كان ذلك هو ما انفتح عليه القمقم القديم يوم رفع الغطاء عن مستور النظام الدموي. لقد عرف العراقيون انهم رغم كل ذلك الشطط لم يقطعوا مفازة ولم يبقوا ظهرا. وذلك اكتشاف يبعج النفس بالضنى ويزيد. ولكن عزاء الشعب العراقي كان في نتائج انتخابات مارس التي ما زال صداها يموج في الارجاء. لقد بشرت نتائج تلك الانتخابات بأن اليوم الذي سيتدثر فيه الجنون الطائفي على يد المد الديمقراطي اصبح قريبا. وانه واصل من فوره غير البعيد. ويومها سيترك العراقيون خلفهم كل منغصات وجودهم القديم. وسوف يقبلون على حياة جديدة لن تهون فيها حياة الشخص العراقي الى الدرجة التي يقتل فيها على الهوية المذهبية او الهوية العرقية. وسوف يحس العراقيون ان يوما تهزم فيه الاجندات الطائفية والعرقية هو يوم عيد للعراق الجديد، يستوجب ازجاء التهانى والتبريكات. نعم، بقي امام القادة العراقيين جزء من المشوار لم يتم اجتيازه بعد. ونعني به مشاورات تكوين الجهاز التنفيذي للدولة. وهذا مشوار مقدور عليه. فالانسان العراقي الذي يتحسس طريقه وسط الانفاق المعتمة بجلد وتصميم لن يعوزه ان يفتح كوة للنور والاشراق في نهاية ذلك النفق. وبقي ايضا أن نتمنى، نحن معشر السودانيين، ان تكون هذه العاقبة الانتخابية العراقية الايجابية عندنا في بلدنا الذي يحيط ضباب كثيف بمستقبله حتى ضمر مجال الرؤية امام ناظريه. لقد انتصر اشقاؤنا العراقيون على ضعفهم المؤقت او كادوا. والامل هو ان ينتصر شعبنا في السودان على ضعفه القديم المقيم. ولن يكون هناك انتصار في الحالة السودانية الا اذا استطاع السودانيون الحفاظ على وحدة بلدهم القارة. فذلك هم دونه كل هموم الدنيا بالنسبة لشعب السودان. ويزيد من هم الشعب السوداني انه صار يمسى ويصبح على بشريات القوى الخبيثة وهى تحدثه عن اقتراب موعد تفتت بلده دون ان يكون في استطاعته أن يدفع ذلك الخطب الجلل. او يكون في مقدور قادته ان يرفعوا اصبعا بالاعتراض! انها حالة فريدة من العجز والتيه السياسي لا يحسد عليها انسان على وجه البسيطة السياسية او البسيطة الكونية. فهذا هو المبعوث الرئاسي الأميركي الذي ارسل الى السودان في محاولة لملمة اطرافه المتناحرة، وبناء لحمة سياسية واجتماعية متجانسة بين مكوناته المختلفة. ها هو الرجل يصبح نذير شؤم للشعب السوداني لا يحدثه الا عن تفتت بلده الوشيك، وعن استعداد بلده للمساهمة في اخراج الفيلم الانفصالي الجديد. لقد حور الرجل المهمة التي اوكلت اليه تماما - من مهمة لم شمل الى مهمة فركشة شمل. ولن يصدق احد من الناس انه يفعل ذلك من تلقاء نفسه. فهذا موقف يتخطى حدود صلاحياته. و لابد أن حكومته قد امدته بهذه القناعة الجديدة وامرته بأن يسربها الى من يعنيهم الامر كنوع من جس النبط تحسبا لما قد يكون. ان حالة الركون السياسي وسط القيادات السياسية السودانية، وصمتها عن تصريحات المبعوث الرئاسي الأميركي السلبية بشأن مستقبل بلدهم لهي حالة تبعث على الاسى وتكشف مدى اليأس الذي توطن في نفوس قادة البلد وهم يرون بالعين المجردة النهاية الوشيكة. لقد انتصر العراقيون على ضعفهم المؤقت. واصبح في مقدورهم غدا ان يكتبوا الفصل الاخير السعيد من قصة بلدهم . اما السودانيون، فيتحتم عليهم بذل جهد اكبر لكي يكون في مقدورهم ان يكتبوا غدا الفصل الاخير السعيد من قصة بلدهم . فحالة البلدين الشقيقين تختلف بمقدار. فبلد العراقيين لم يكن مواجها في يوم من الايام بحالة يكون فيها او لا يكون، مثلما هي حالة بلد السودانيين اليوم. وهذا فرق شاسع.كما ان خطورة حالة بلد السودانيين تكمن في انه بلد قابل للتفتت الى عدة دول. وليس فقط التفتت الى دولتين. فمساحته الجغرافية الهائلة يمكنها ان تستوعب هذا التكاثر الدولي. فهو بلد قابل لأن يكون يوغسلافيا اخرى التي تفتت الى خمس دول وما زال العد متواصلا. في الحالة السودانية يمكن ان يلد البلد «الحدادى المدادى»، كما يصفه اهله بعاميتهم الخاصة، يمكن ان يلد عددا مماثلا اذا تمكن الادعياء الكثيرون من اخراج امانيهم الى ارض الواقع. فربما سمعنا بدولة دارفور الكبرى، ودولة كردفان الكبرى، ودولة الشرق الكبير، ودولة الشمال النوبي، مهد الحضارات الضاربة في القدم الذي يشعر بعض بنيه انهم قوم آخرون. وربما قامت دولة خامسة في السودان النيلي على النسق الذي سبق وأن اقترحه احد فلاسفة نظام الحكم الحاي وكرره كثيرا حتى اشتهرت الفكرة وارتبطت باسمه حين اطلق المحللون عليها اسم «مثلث حمدي»، عطفا على اسم الرجل الذي كان في يوم من الايام فيلسوف «نظام الانقاذ الاقتصادي»، فأورد البلاد والعباد مورد التهلكة الاقتصادية التي ما زالت متجذرة في بطون الناس وفي مظهرهم ومسلكهم. قلت ان الحالة السودانية تستوجب جهدا اكثر من شعب السودان لكي يحتفظ بهذا الجسم الجغرافي الهائل بشكله الموحد. واعبت على قادة البلد ركونهم غير الطبيعي وهم ويسمعون بشريات سالبة عن بلدهم، وعللت ذلك باليأس من تفادي الكارثة الوشيكة. بقي أن اضيف أن الامل ما زال معقودا على أن يفهم الذين يحرضون على تفتيت هذا العملاق الخرافي، أنه اذا تشظى، فإن الاقليم سيجد نفسه محاصرا بحالات صومالية متعددة وفريدة في النوع والخاصية. ويومها لن تنفع كل التدابير في اطفاء الحرائق التي ستتوالد وتتمدد كما تتوالد وتتمدد حرائق كاليفورنيا الأميركية عند كل صيف. قلت إن الامل هو ان يدرك المحرضون على تفتيت وحدة البلد القارة، ان يدركوا انهم يلعبون بالنار. وقديما قال الشاعر القديم ما اضيق العيش لولا فسحة الامل. المصدر: الوطن القطرية 1/4/2010