بعد الانتخابات السودانية الأخيرة علت نبرة انفصال جنوب السودان، وقد ظهرت دلائل تؤكد وجود اتجاهات تسعى لتحقيق هذا الهدف، وبدت هذه الاتجاهات بعد أن أجريت الانتخابات في جنوب السودان وكأنها أجريت في دولة مستقلة، وكان نتيجة ذلك أن ظهرت تصريحات تدعو إلى ترسيم الحدود بين شمال السودان وجنوبه، وكان ذلك غريبا إذ كيف ترسم الحدود بين إقليمين في دولة واحدة إن لم تكن هناك نوايا حقيقية لانفصال جنوب السودان في الاستفتاء الذي سيجرى في العام المقبل، والمعروف أنه استفتاء يحرص الكثيرون على إتمامه من أجل التخلص من أعباء هذه المرحلة، وعلى الرغم من أن الرئيس السوداني ظل يردد في خطاباته أنه مع وحدة البلاد ويريد أن تكون هذه الوحدة جاذبة، فإن الكثيرين من قيادات الحزب الوطني الحاكم يرون في استقلال جنوب السودان تخلصا من عبء الجنوب، والتفرغٍ لما يسمونه مشروعهم الإسلامي الذي لا يجد بكل تأكيد دعما من الجنوبيين، على الرغم من وجود عناصر في الجنوب غير قادرة على تحديد موقف واضح من هذه القضية، وكان من الغريب أن يقول نائب رئيس الجمهورية سلفا كير أنه غير قادر على أن يحدد موقفه، هل هو مع الوحدة أم مع الانفصال، وليس ذلك غريبا لأن الكثير من الجنوبيين لا يعرفون لماذا هم يريدون الانفصال خاصة أولئك الذين يشاركون بصورة فاعلة في دولة الوحدة ولا يجدون صعوبة في ممارسة أدوارهم الوطنية سواء كان ذلك في جنوب السودان أم في شماله. ولا أريد في هذه المرحلة أن أحدد موقفي من قضية الوحدة أو الانفصال بل أريد أن أعرض لبعض الأفكار التي طرحت من جانب الجنوبيين في هذه المسألة، وسوف أرجع إلى آراء من يطلقون على أنفسهم حزب جنوب السودان المتحد، وهو الحزب الذي عقد مؤتمرا صحافيا في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام ألفين وسبعة وضح فيه الأسباب التي تدفعه إلى الانحياز لخيار الانفصال في جنوب السودان. وقد وصف زعيم هذا الحزب 'جوما امبغونيويا' وحدة السودان بأنها ضرب من العبث يجب التوقف عن ممارسته، وقد حث جوما حزب المؤتمر الحاكم على العمل من أجل وضع اتفافية السلام موضع التنفيذ، وكأن الهدف الأساسي لاتفاقية السلام هو تحقيق انفصال جنوب السودان. ويقول امبغونيويا إن دولة جنوب السودان الجديدة ستحاول أن تقيم علاقات حسنة مع جيرانها بمن فيهم حكومة السودان الحالية، كما ستحاول أن تؤسس دولة ديمقراطية يسود فيها حكم القانون وتحارب القبلية والمحسوبية والجهوية والقبلية واستغلال النفوذ، وكأنه يقول يذلك إن جميع هذه الصفات هي السائدة الآن في دولة السودان. وإذا تساءلنا لماذا يصر زعيم هذا الحزب الانفصالي على تحقيق الانفصال وجدنا انه يركز على الأسباب التالية. أولا: هو يرى أن الاستمرار في توحيد السودان من وجهة نظره هدف غير قابل للتحقيق، وهذا الهدف كما يقول ضياع للوقت والأرواح والمصادر. ثانيا: يرى جوما أن السودان فشل في أن يحقق ذاته كأمة موحدة لأنه منذ أن نال استقلاله في عام ألف وتسعمئة وستة وخمسين فشل في تحقيق الانسجام بين جميع أقاليمه كما فشل في تحقيق السلام في جنوب السودان، وقد راح ضحية سياسات الحكومة في الشمال أكثر من مليوني مواطن قتلوا في حرب الجنوب. ثالثا: هو لا يرى أن هذا الوضع سوف يتحسن ويطالب بأن يعطى شعب جنوب السودان كامل الحرية ليختار ما إذا كان يريد الاستمرار في هذا الوضع أم يريد بناء دولته وحكومته المستقلة. ويتساءل جوما لماذا تصر حكومة السودان على وحدة مستحيلة ولماذا لا تتقيد باتفاقات أديس أبابا واتفاقية الخرطوم واتفاقية فشودة وغيرها من الاتفاقات. ويرى زعيم هذا الحزب الانفصالي أن السبيل الوحيد لتحقيق السلام في السودان هو إعطاء الجنوب استقلاله، ويقول يجب ألا يخشى العالم من هذا الاستقلال لأن الجنوب سيقيم علاقات حسنة مع كل دول العالم ولن يحاول تعطيل مصالحها. وإذا نظرنا في كل ما تعرض له زعيم هذا الحزب لم نجد فيه سوى رغبة تساور عقول النخب من أجل تحقيق السيطرة لأنفسهم دون تفكير في النتائج الخطيرة التي ستقود إليها مثل هذه الأعمال، فنحن أولا لا نعارض أن لشعب جنوب السودان مطالب كثيرة، ولكن هذه المطالب ليست صعبة التحقيق خاصة مع وجود مناخ جديد في السودان ينظر لقضايا الجنوب بطريقة مختلفة، والخيار الأفضل هو أن يبدأ الجنوبيون في البداية في اختبار هذا المناخ ورؤية ما إذا كان من الممكن تحقيق مطالبهم، وما إذا كان من الممكن البقاء في ظل السودان الموحد مع اكتساب حكم إقليمي يحققون فيه كل أهدافهم. وهنا لا بد أن نتعرض لبعض الصعوبات والعقبات التي يمكن أن تعترض هذه الاتجاهات الانفصالية في جنوب السودان. أولا: إذا تحقق انفصال الجنوب بهذه الطريقة التعسفية فكيف ستتمكن دولة جنوب السودان من النفاد إلى العالم الخارجي؟ هل سيتم ذلك عن طريق شمال السودان أم عن طريق الدول الأفريقية المجاورة؟ الجنوبيون يقولون إنهم سيحاولون الاحتفاظ بعلاقات حسنة مع شمال السودان، وتلك مجرد أمان لأنه إذا حدث الانفصال فلن تكون هناك علاقات حسنة مع شمال السودان، وستضطر الدولة الجديدة إلى التعامل مع دول أفريقيا المجاورة وقد تجد أيضا صعوبة كبيرة خاصة أن بعض هذه الدول قد تفكر بصورة جدية في ضم الجنوب كله إليها أو إشعال حرب قبلية لا تقل خطورة عن الحرب التي كانت دائرة في الجنوب من قبل: ثانيا: ان إنفصال الجنوب لن يكون حادثة مستقلة لأننا رأينا بعد توقيع اتفاقية نيفاشا أن عناصر التمرد في دارفور كثفت أعمالها وجعلت من قضية دارفور قضية دولية، وبالتالي فلن تقف هذه العناصر مكتوفة الأيدي إذا ما تحقق استقلال جنوب السودان. ثالثا: المسألة لن تقف عند ظهور نزعات انفصالية في مناطق أخرى من جنوب السودان، بل إن تفكك وحدة السودان قد تؤدي إلى نزاعات قوية بين بعض الدول الأفريقية والدول المستفيدة من مياه النيل وأعني بذلك مصر والسودان، وسيكون أي تدخل مصري في السودان بكل تأكيد متأخرا كما سيكون الخيار الوحيد لتقوية الموقف المصري هو أن تقبل مصر مشروع توصيل المياه لإسرائيل لاستقطاب دعم غربي، وهو المشروع الذي وضعت خطواته الأولى بتوصيل مياه النيل إلى سيناء عبر قناة السلام، ولا شك أن توصيل المياه لإسرائيل سيكون على حساب التطور والحاجة في مصر، ولكن ما هو الخيار الآخر المتاح أمام مصر إذا ما تطورت الأمور على النحو الذي ذكرته. هنا لا يمكننا أن نتجاهل في واقع الأمر كثيرا من المشكلات التي ستنشأ كأثر لانفصال جنوب السودان، وبالتالي يجب أن تتخذ الخطوات الاستباقية لكي نوقف التدهور في السودان، المقبل على أخطر المراحل في تاريخه، ويجب هنا أن أكون واضحا وصريحا إذ أن هذه المشكلات نشأت في معظمها مع توجه الشمال لإقامة دولة دينية، وهي دولة لم تتحقق منذ أكثر من عشرين عاما، ولا داعي لها أصلا، غير أن ذلك ليس تقليلا من أهمية الدين، ولكن إذا نظرنا إلى العالم بأسره لم نجد فيه دولة واحدة قائمة على أساس ديني، مع أن الناس في مختلف هذه الدول يتمسكون بعقائدهم والقيم التي تمثلها في إطار دولة القانون والمؤسسة، وذلك ما هو مطلوب في السودان حتى نوقف ما يحدث في الجنوب الذي يشعر شعبه بالخوف من قيام دولة مؤسسة على عقائد تختلف عن عقائد معظم الجنوبيين. المصدر: القدس العربي 13/5/2010