ü الأنباء الواردة من أديس أبابا خلال اليومين الماضيين، لم تخلُ من زخات تفاؤل حملتها رياح وأمطار هذا الخريف المبكر، بعد أن كاد أن يستيئس الناس من كل أمل وخير في العلاقة بين شطري الوطن المنقسم، الذي بدا خلال الأعوام القليلة الماضية بصورة وطن «للإخوة الأعداء»، جراء سيادة روح الخصومة والمحاصصة، وغياب الوعي بحقائق الجغرافيا والتاريخ، التي تؤكد شراكة أهله القدرية والتامة في المصالح والمصير والمستقبل. ü طالعتُ الصور التي نقلتها الفضائيات وبعض الصحف للمؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين ووزير السلام رئيس وفد الجنوب باقان أموم، تأملت في وجهيهما ووجوه من أحاطوا بهما من أعضاء الوفدين، فقرأت علامات الرضا ومؤشرات التفاؤل تتخلل النظرات والابتسامات العفوية، التي عززتها تصريحات غير معهودة بأن كل شيء يسير إلى الأمام باتجاه الاستجابة لنداءات السلام والأخوة، بل و«التكامل الطبيعي» الذي شكل غيابه- في أجواء الانفصال والمفاصلة- خطراً على الأمن والاقتصاد وعلى العيش حتى في حدوده الدنيا، فاشتعلت نيران الحروبات الجهوية والقبلية هنا وهناك، وكأنما روح المفاصلة والمحاصصة قد سرت من الكيان الكبير المنقسم والكتلة الضخمة إلى كل جزء من أجزائها، وكل ذرة من ذراتها فعمدت إلى الانشطار والتفتيت والتخريب.. فالسودان مهما علت نبرة السياسات الخرقاء ودعوات الخصومة والإقصاء هو في النهاية جسد واحد تتداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. ü التفاؤل والرغبة في الجنوح إلى السلام والتعاون حملته خلاصات المؤتمر الصحفي الذي عقده الجانبان إثر نهاية الجولة الثالثة يوم السبت، بعد أن جلس الطرفان السودانيان الشمالي والجنوبي معتزلين الوسطاء يحدثان بعضهما بعضاً بلا حواجز أو بروتوكولات.. فاتفقا- مبدئياً- على عدم اللجوء إلى القوة لتسوية النزاعات والخلافات على مستوى شطري الوطن المنقسم وحدود الدولتين «المفترضتين»، وعلى الإلتزام أيضاً بوقف «الأعمال العدائية»- أي الكف عن تشجيع أي طرف للتمردات والحروبات التي تنشأ في ساحة الطرف الآخر- وعلى تعزيز «الإرادة السياسية»، التي هي ضرورية لتجاوز العقبات التي تنشأ هنا وهناك، تشجعها وتغذيها عناصر محلية متعصبة أو مصالح إقليمية أو دولية ارتبطت مصالحها بمناخات الشد والجذب والتوترات وتجارة الحروب والاستثمار في الدماء. ü وبرغم غموض إجابة وزير الدفاع وحذره تجاه سؤال عدم تمكن الطرفين إلى اتفاق حول المنطقة الحدودية «العازلة الآمنة منزوعة السلاح»، إلا أنه أجاب بما هو أهم من قيام تلك المنطقة، لأنها- كما قال- ليست هدفاً في حد ذاتها- فالهدف هو السلام وإرساء العلاقات الطيبة بين الدولتين- ونحن نقول قبل الدولتين بين الشعب الواحد شمالاً وجنوباً، شعب السودان.. لكن أهم ما قاله الوزير في «نظري هو» أن كل هذه المباحثات تهدف للوصول إلى ما يسمى ب«الحدود المرنة»- التي تحقق التواصل المستمر وتعزيز التجارة وتبادل المصالح بين «الشعبين»، منعاً للقطيعة. ü تحليل الواقع الذي يعيشه السودان اليوم- شمالاً وجنوباً- يؤكد أن القطيعة قد أثمرت أوضاعاً مأساوية مدمرة هنا وهناك، ولم يجنِ أي طرف ما اعتقد ابتداءً، أنه قد يكون مصلحةً له ولدولته وشعبه جراء الانفصال والمفاصلة، واكتشف الطرفان- من خلال التجربة- أن الاقتصاد يتدهور ويجبر كل منهما للعيش على الكفاف والتقشف حتى يتمكن من البقاء على قيد الحياة، وأن الأمن يتدهور ويتراجع ويزداد الصرف عليه بفعل التمردات والحروبات التي هي بعض علل وأدواء الانفصال، الذي سار نحو هوَّته الطرفان مغمضي العيون كالعميان. ü أهم ما في الجولة الأخيرة لمحادثات أديس أبابا، هي أنها جاءت بمثابة «مبادرة سودانية» لجأ إليها الطرفان بعد اعتزال الوساطة الأفريقية التي نأت بنفسها قليلاً، إدراكاً منها أن السودانيين قادرون على اقناع بعضهما بعضاً، إذا ما اتيحت لهما فرصة التحدث خارج الأُطر البروتوكولية ورقابة الآخرين، ويكفيهما فقط الإحساس بأن العالم من حولهما- إقليمياً ودولياً- ينتظر منهم أن يأوبوا إلى كلمة سواء، وأهم من ذلك أنه يضع لمسؤولي الدولتين سقفاً زمنياً يعني تخطيه وتجاوزه المزيد من العقوبات والمعاناة وإعمال «البند السابع» من ميثاق الأممالمتحدة بتداعياته الخطرة. ü نعم لم يتم الاعلان عن اتفاق ناجز يدخل، وفق جدول زمني، حيز التنفيذ، لكن كل المؤشرات تقول إن الطرفين في سبيلهما لبلوغ ما هو مرجو من سلام وتعاون، حتى في القضايا الشائكة كالتمردات والحروبات الدائرة هنا وهناك، بما في ذلك التفاوض مع الحركة الشعبية قطاع الشمال، التي نص عليه قرار مجلس الأمن رقم (2046) والتي توقع الوزير عبد الرحيم أن يكون اتفاق الطرفين في الجولة المقبلة سيجعل من القرار «تحصيل حاصل» باعتبار أن البلدين قد بلغا مضمون القرار عبر طريق آخر، بينما عبَّر الوزير باقان عن شعوره بالارتياح إزاء «الروح الجديدة» التي سادت الجولة مؤكداً التزام جوبا بتحسين العلاقات مع الخرطوم. ü هذه المرونة كانت مفتقدة، مفتقدة في العقول مثلما هي مفتقدة في الحدود بين طرفي الوطن المنقسم، فالعقول المرنة والمنفتحة والمتحررة من غلالات وغمامات التعصب والشحناء كفيلة بأن تصنع حدوداً مرنة تعوض شعبنا في الاقليمين المنشطرين وعثاء القطيعة والتباعد التي صنعها الانفصال وتُحدُّ من أضراره المدمرة في الاتجاهين.