ü أمس الأول السبت وافتنا الأنباء الواردة من أديس أبابا بأن وفدي دولتي السوداني- الشمالية والجنوبية- وقعا اتفاقية لعدم الاعتداء، قبل أن يدخلا في جولة جديدة من التفاوض على القضايا العالقة، قضايا النفط والحدود والديون والعلاقات التجارية وغيرها من المشكلات الموروثة بين الدولة «السلف» والدولة «الخلف» التي لم تنجح ست سنوات من العمل المشترك في إطار «حكومة الوحدة الوطنية» بين الحزبين الحاكمين لأن يصلا فيها إلى تفاهم أو حتى تهيئة الأجواء وخلق مناخ صالح للتفاهم المستقبلي حولها إذا ما وقع الانفصال الذي عمل كلاهما من أجل جعله خياراً جاذباً لجمهرة الجنوبيين من خلال تلك الحكومة التي أفرزتها اتفاقية نيفاشا، والتي تستحق أن تحمل عنوان «حكومة الفُرقة الوطنية»، حيث كان كل من الفريقين «يحفر للآخر» ويحاول إضعافه، فانتفت روح الشراكة والمودة وتكرست روح المحاصصة والبغضاء، ولم يعر أي منهما اهتماماً لما نصت عليه الاتفاقية التي وقعاها بأيديهم والتي تقول بجعل «الوحدة جاذبة» أو بأولوية العمل من جانب الطرفين لجعلها كذلك. ü وكما لاحظ الدكتور عبد الوهاب الأفندي- عن حق- الليلة قبل الماضية وهو يتحدث لبرنامج «ما وراء الخبر» بقناة الجزيرة الذي كُرس لمناقشة «اتفاقية عدم الاعتداء» بين دولتي السودان، فإن «نيفاشا» لم تكن سوى «هدنة» بين فريقين وحزبين متصارعين، افتقرت إلى روح التفاهم العميق، فكلا الحزبين، وكما أشرنا إلى ذلك مراراً وتكراراً في هذه المساحة، كان يحمل فكراً وأيديولوجية وبرنامجاً مناقضاً بشكل كامل لما يحمله الآخر، جاء كل منهما ببضاعته التي لا تحتمل المقايضة، أو حتى المزج مع بضاعة الآخر، فكان الفرز وكانت المحاصصة هي السبيل الوحيد المتاح، ما جعل المفاصلة والانفصال هو الخيار الوحيد المتاح، برغم كل الضجيج الإعلامي حول «الوحدة»، تجنباً للمسؤولية التاريخية والإدانة التي تقع على عاتق من يتحمل وزر الانفصال وتشطير الوطن الكبير. ü فزعت أفريقيا وانزعج المجتمع الدولي وهو يسمع صيحات الحرب تتعالى في كل من الخرطوموجوبا مع نهاية الجولة الماضية التي انعقدت على هامش القمة الأفريقية في العاصمة الأثيوبية، فالرئيس البشير أعلن من خلال لقائه التلفزيوني مع الطاهر حسن التوم، أن الجنوب والشمال هما الآن أقرب إلى الحرب من السلام، ورد عليه الرئيس سلفا كير وهو يخاطب جنوده في قاعدة «بلفام» بأن الجنوب جاهز للحرب والتي لن تكون في جوبا وإنما تبدأ من «جودة» على حدود الوطن المنقسم، ولذا جاءت مبادرة الاتحاد الأفريقي بحمل الطرفين على توقيع اتفاقية «عدم الاعتداء» قبل الولوج إلى جولة جديدة، ظناً من الوسطاء الأفارقة أن بمسؤولية التحريض والتموين والتسليح لعناصر «قطاع الشمال» السابق في الحركة الشعبية لشن تلك الحرب، بينما تتهم جوباالخرطوم بتحريض وتمويل الحركات المتمردة عليها والمنقسمة عن الجيش الشعبي لزعزعة استقرار حكمها وشن حرب بالوكالة تمهيداً لإسقاط حكمها. ü السؤال المهم الآن هو، هل ستشكل الجولة الحالية التي انخرط فيها الطرفان في أديس أبابا اختراقاً للقضايا العالقة وفي مقدمتها النفط؟ سؤال من الصعب الإجابة عليه مقدماً، خصوصاً إذا ما تذكرنا أن الخرطوم تسعى للوصول إلى تفاهم حول النفط وتصديره وحقوقها في العبور قبل الانتقال للتفاوض حول القضايا الأخرى، أبيي والحدود والديون وغيرها، بينما تفضل جوبا، بل وتصر على مناقشة كل تلك القضايا «كحزمة واحدة» بالنظر إلى تداخلها وترابطها من وجهة نظرها. برنامج الجزيرة الذي خصص لمناقشة الموضوع، استضاف أيضاً من جوبا د. بيو ماتوك، الذي أوضح بأن المخرج والاختراق يمكن ان يتحقق إذا ما قبل الطرفان بالآلية الجديدة التي اقترحتها الوساطة الأفريقية، بحيث تصدر أجندة التفاوض عن الوسطاء وتعرض على الطرفين، عوضاً عن النهج السابق، حيث كان كل طرف يتقدم بما يراه من أجندة وموضوعات بحسب أولوياته، مما يترتب عليه تضارب في تلك الأولويات، ومع ذلك فإنه يمكن للمراقب أن يرجح أنه في أجواء التوتر والشحن التي تسود علاقة الطرفين، ومع استمرار الحرب على الحدود والاتهامات المتبادلة، فإنه حتى إذا قبل الطرفان بمبدأ أن تكون الوساطة الأفريقية هي الجهة المسؤولة عن تصميم أجندة التفاوض، فإن ذلك لا يعني بالضرورة تسليم الطرفين بما تراه الوساطة، وقد تواجه تلك الأجندة بالرفض إذا لم تتفق مع أولويات هذا الطرف أو ذاك، وعلى هذا يمكن أن نخلص إلى أن الطريق ما زال طويلاً، خُصوصاً في غياب الثقة والشكوك العميقة والظنون المعلنة بين الطرفين بأن كل طرف يعمل على إسقاط الآخر ويُعمل معاوله لحفر لحد للآخر. ü مهما يكن من أمر، فإن المواطن السوداني، شمالاً وجنوباً، هو الذي دفع وسيدفع ثمن السياسات والقرارات المدمرة التي اتخذها الحزبان الحاكمان- شمالاً وجنوباً- والتي أفضت إلى انشطار الوطن، فخسر الوحدة ولم يظفر بالسلام كما يقولون، بل أكثر من ذلك لم يجد حتى «حسن الجوار»، نعم المأساة تتجسد في الانتقال من الأمل في وحدة طوعية جاذبة لوطن عملاق بشر بها أهل نيفاشا، إلى حالة الإحباط التي يُجسدها توقيعهم على «اتفاقية لعدم الاعتداء»، عدم الاعتداء لا أكثر، وليس التعاون والتآذر والتكامل بين شطري الوطن المنقسم، فلا حول ولا قوة إلا بالله!