ü اشتهر عن «خناقات» الأطفال المصريين، عندما يمسك الواحد منهم بخناق الآخر، ويتشبث به حتى يبلغ الرهق بأي منهما مبلغاً عظيماً، أن يبحثا عن مخرج يحفظ لأي منهما ماء وجهه أمام جمع المتفرجين على «الخناقة» فيبدأ أحدهما بالقول «سيب» ويرد عليه الآخر بالقول «سيب وأنا اسيب»، وتظل العبارة تتدحرج وتتداول على لسان المشتجرين، كما كرة الطاولة لفترة تقصر أو تطول حتى يتدخل طرف ثالث أكبر سناً ويطلب منهما أن «يسيبا»، في نفس الوقت فترتخي قبضتاهما فجأة وتنفض الخناقة ويطلب منهما «الوسيط» أن «يبوسا» بعضهما ويتصافحا، قبل أن يعودا للعب مرة أخرى. ü تذكرت نموذج «خناقات» الأطفال المصريين هذا وأنا أطالع وقائع المؤتمر الصحفي للكوماندر باقان أموم الذي عقده منذ يومين في «سفارة الجنوب».. الجنوب الذي صارت له سفارة في وطنه الكبير بعد «حادثة الانفصال» المشؤومة، وذلك بعد زيارة مفاجئة التقى فيها بمرجعيات الحكم والتفاوض في الخرطوم، ووصل معهم إلى اتفاق بدا أنه أكثر «جدية وعملية» لتنفيذ اتفاق اديس أبابا الأخير ذي الثماني نقاط، وعلى طريقة «سيب وأنا أسيب»- وبحسب باقان- اتفق الطرفان الشمالي والجنوبي على ما يلي: ü أن يسيب الجنوب إغلاق الآبار ويدع النفط يتدفق، وأن يسيب الشمال إغلاق الأنابيب لتحمل النفط إلى شواطيء البحر الأحمر مقابل أجر معلوم للنقل والعمليات المصاحبة قدره باقان ب90 مليون دولار شهرياً. ü أن يسيب الجنوب دعم معارضة الشمال المسلحة، وأن يسيب الشمال دعم معارضات الجنوب، وخلق منطقة منزوعة السلاح يشرف عليها الوسطاء، ونشر آلية مشتركة من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة للتأكد من إلتزام الطرفين، وتشكيل لجنة سياسية مؤقتة للشكاوى والتحقيق. ü أن يسيب الطرفان «الزعل» ويتعاملا بمبدأ السماحة و«التعاذر» فيما يختلفان فيه، وحمل باقان رسالة من الرئيس سلفاكير تدعو الرئيس البشير لزيارة جوبا في أي وقت يسمح له جدوله بالحضور- يعني دعوة مفتوحة- حتى لا تخرج «الدروع البشرية» الناسفة في وقت الزيارة «المعلوم» وتدق طبول الوقيعة والقطيعة وتتمترس حول منزل البشير أو «تنبطح» تحت عجلات طائرته المغادرة إلى الجنوب بذريعة حمايته من «غدْر الجنائية». ü أكد باقان أن جوبا تملك الإرادة لتنفيذ الاتفاق الأمني «أولاً»، ونفى أن تكون حكومته تنتقي ما يلائمها من الاتفاق وتترك الباقي، وانها عرضت على الخرطوم التوسط بين الخرطوم وقطاع الشمال لإنهاء الحرب في المنطقتين- جنوب كردفان والنيل الأزرق- وساطة مبعثها الخلفية العميقة والتاريخية بين الحركة الشعبية وقطاع الشمال.. وبرر حديث سلفا الأخير بأنه «من المستحيل نزع سلاح الفرقتين 9 و 10» أو نزع سلاح قطاع الشمال بأن سلفا قصد أنه ليس من حق الجنوب كدولة التدخل في السودان، بالإضافة إلى أن جوبا لا تملك- عملياً- القدرة لفعل ذلك بالرغم من امكانية مساهمتها في الحل إذا طلب منها التوسط.. وعندي أن عرض الوساطة والتبرير لتصريحات سلفا كير، ينم كلاهما عن «رغبة» أو «نية» في الوصول إلى اتفاق من جانب جوبا، كما يستجيبا في الوقت ذاته لمطلوبات الوساطة الأفريقية ولقرار مجلس الأمن رقم (2046) الذي يدعو الخرطوم للتفاوض مع قطاع الشمال من أجل إنهاء الاقتتال في المنطقتين على خلفية اتفاق «نافع- عقار» في أديس أبابا، الذي تم إجهاضهُ قبل أن يجف حبره بقرار من المكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم.. لذلك لم يكن صدفة أن يكون من بين لقاءات باقان المهمة زيارة د. نافع علي نافع بمكتبه في القصر الجمهوري والتقاط صورة في حدائق القصر، في إشارة للدور الذي يمكن أن يلعبه نافع في إحياء اتفاقه مع عقار الذي يسهل على جوبا والحركة الشعبية أن «تسيب» قطاع الشمال في حاله، ويقتصر دورها على الوساطة بين «القطاع» و«الوطني» الذي يشغل نافع فيه منصب نائب رئيسه لشؤون التنظيم، والاتفاق بين «الشعبية» جنوباً و«الوطني» شمالاً، يؤكد الرغبة في التعاون وإنهاء القطيعة التي تفتح النوافذ لعمل الشيطان. ü يبقى طرف الجلباب الذي لا تزال تتشبث به أصابع الطرفين ولم «تسيباه» بعد هو «أبيي» التي أعجزت الخبراء والوسطاء الدوليين والاقليميين والمحليين، في انتظار أن يقبل الدينكا والمسيرة «بكلمة سواء» حول الانتخابات أو التقسيم أو أي حل يرضيهما، فكلاهما يمارس ضغطاً على حكومته من أجل الحصول على أكبر مكاسب قبل أن يتقرر مصير المنطقة شمالاً أو جنوباً، لكن- مع ذلك- بدا لي أن الطرفين من خلال معادلة «سيب وأنا أسيب» قد قررا ترك أمر أبيي وأن «يسيباها للأيام» ويؤجلا الأمر برمته. ü ضغوط الواقع الراهن المعلومة في كل من الخرطوموجوبا، اقتصاداً وسياسة وعلاقات دولية وتهديدات أممية، هي ما جعل الفريقين الحاكمين هنا وهناك أن «يسيبا» خناق بعضهما البعض، ليستفيدا مما يهيئه «اتفاق التعاون» لكل منهما للحفاظ على حكمه وتفريج الضائقة على شعبه ولو إلى حين. ü هل سيكتب لكل ذلك النجاح ويتجاوز الطرفان خلافاتهما ويلتزما بما اتفقا عليه؟ من الصعب الجزم بلا أو نعم.. فكلاهما وارد إذا ما تحلينا بالحذر الواجب دون اغراق في التشاؤم، ودون أن ننسى في الوقت ذاته دور «الغربان» الناعقة في سماء الوطن وصدى أصواتها المجلجلة التي تنادي على«صقور الفطائس» أن هلُمي!