للإصلاح الاقتصادي للفترة 5102- 9102 أسست الإنقاذ حكمها في بداياته على ما أسمته «المشروع الحضاري»، ومن شعاراته المحفوظة: «نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع». ومع الأيام بدأ المشروع الحضاري في التلاشي وكادت شعاراته تلك أن تنمحي من الذاكرة. ولو بحثنا بجدية في ذلك المشروع لوجدنا فيه شيئاً من الحل.. وأعني بذلك قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع عزيز مصر وحلمه المزعج.. ويمكن تلخيص القصة ومغزاها في قوله تعالى: «فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ» «سورة يوسف الآية 74». واستجاب العزيز ولكنّا لم نفعل، وبدأنا نغرف من آبار الذهب- ا لذي غيّرنا لونه من الأبيض إلى الأسود- مع أن المثل يقول: «القرش الابيض ينفع في اليوم الأسود».. غير أننا صرفنا «صرف من لا يخشى الفقر» الذي كان مخيماً على البلاد وأحكم قبضته على أرضها منذ توقيع تلك الاتفاقية التي ذهبت بجزء لا يستهان به من مساحة المليون ميل مربع جنوباً ومعها البترول. ولتصحيح المسار صدر «البرنامج الثلاثي لاستدامة الاستقرار الاقتصادي 2102- 4102» بموجب القرار الوزاري رقم (65) الصادر من وزارة المالية والاقتصاد الوطني في يوليو 0102م، ومع اقتراب نهاية البرنامج الثلاثي أصدرت الوزارة برنامجاً جديداً: «البرنامج الخماسي للإصلاح الاقتصادي للفترة 5102- 9102». والذي أثبت أن البرنامج الثلاثي فشل في تحقيق أهم مؤشراته: «في مجال تحقيق الاستقرار الاقتصادي فإنه ما زال بعيد المنال في بعض مؤشراته الكلية مثل التضخم، والذي بلغ متوسط معدله 7.53% في الربع الأول من العام 4102، مقارنة مع ما هو مستهدف بالوصول إلى رقم آحادي، كما أن سعر صرف العملة الوطنية ما زال يعاني من التدهور..». إلى جانب ذلك يلاحظ أن التعليم العالي لم يرد إطلاقاً في موجهات البرنامج الخماسي الجديد، وقبل ذلك جاء على استحياء في الثلاثي مستتراً ضمن التعليم عامة.. وكذلك البحث العلمي الذي لم يرد في البرنامج الثلاثي وظهر هو الآخر أيضاً على استحياء في قاع أولويات البنيات الأساسية ضمن موجهات البرنامج الخماسي.. في حين أن البحث العلمي كان ينبغي أن يكون مجالاً قائماً بذاته وكذا التعليم بشقيه العام والعالي.. هذا ولم تبرز ضمن أولويات ومرجعيات البرنامج الجديد بعض المسائل المهمة فلم تظهر البطالة ومجابهتها.. كما أن المؤتمر القومي «2102» لم تظهر مقرراته ولا الخطة الخمسية السكانية «2102- 6102» ضمن قائمة المرجعيات التي يتم إعداد البرنامج استناداً عليها. ومن كل ما سبق ذكره يمكن القول إن الدولة لا ترى في التعليم العالي ما تراه العديد من دول العالم والمنظمات الاقليمية والدولية، فقد جاء في تقرير للبنك الدولي: «إن التعليم العالي أصبح له الدور الرئيسي في بناء اقتصاد المعرفة والمجتمعات الديمقراطية، وبات أكثر تأثيراً من ذي قبل، ومن المؤكد أن التعليم العالي أمر مركزي لخلق القدرة الفكرية التي يستند عليها إنتاج المعرفة والمهارات الفردية». كما ورد أيضاً في «الإعلان العالمي بشأن التعليم العالي للقرن الحادي والعشرين» الصادر عن المؤتمر العالمي لذات الشأن الذي عقدته اليونسكو في مقرها بباريس 8991، بمشاركة الكثير من دول العالم الأعضاء بالمنظمة وكان من بينها السودان: «أصبح البحث والتعليم على المستوى العالي عنصرين أساسيين للتطور الثقافي والاجتماعي- الاقتصادي والتنمية القابلة للاستدامة.. ينبغي أن تصبح مهارات خلق الأعمال والمبادرة إحدى الاهتمامات الرئيسية للتعليم العالي، وذلك لتيسير التشغيل للخريجين الذين سيطلب منهم أكثر فأكثر لا يظلوا باحثين عن عمل، بل يصبحوا في المقام الأول عناصر فاعلة في استحداث فرص العمل..»، ومع ذلك يغيب التعليم العالي عن الأولويات في «مجال التنمية البشرية والاجتماعية والبناء المؤسسي» للبرنامج الخماسي للاصلاح الاقتصادي. في حين أن الجامعة في عديد من دول العالم ذهبت بعيداً باعتبارها: «منجم الصناعات الرقمية في العالم، قوقل كانت مشروعاً لرسالة دكتوراة، وفيس بوك اخترعت أصلاً من أجل استخدام طلاب كبرى الجامعات الأمريكية «هارفارد».. كما أن صناعات التكنولوجيا المتقدمة تتمحور حول مؤسسات التعليم العالي.. ففي وادي السيليكون بالولايات المتحدة إلى جانب كبرى الشركات العالمية العاملة في مجال التكنولوجيا المتقدمة توجد في داخله وبالقرب منه أكثر من 03 جامعة وكلية جامعية. وانقل كلمات للسيد/ غرودون براون المبعوث الأممي لمنظمة الأممالمتحدة الخاص بالتعليم يقول فيها: «في تقديري إن الحكومات بدأت تتفهم العلاقة بين التعليم والاقتصاد، لأنها لا تستطيع مغادرة مربع الدول منخفضة الدخل، إلا إذا استثمرت في التعليم». وفهمت اثيوبيا الكلام وسارت على الدرب لمغادرة ذلك المربع بتحديد نسبة للصرف على التعليم بلغت 52% من الانفاق الحكومي.. وفي آخر تصنيف من ويبومتركس (التصنيف العلمي الافتراضي الذي يصدر نصف سنوي في أسبانيا للجامعات العالمية) لشهر يوليو 4102 جاءت جامعة اديس أبابا في المرتبة (81) للجامعات الافريقية متقدمة (6) مراكز على جامعة الخرطوم، التي أحرزت المرتبة (42)، وعلى جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا (81) مركزاً، حيث جاءت الأخيرة في المركز (45).. وجارة أخرى الشقيقة مصر أوردت في دستورها الجديد (4102) المادة 12: «.. تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الانفاق الحكومي للتعليم الجامعي لا تقل عن 2% من الناتج القومي الاجمالي تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية». وحتى لا تترك التزامات الدولة هذه دون تقييد حددت المادة 832 من الدستور المصري فترة زمنية للتنفيذ لتلتزم به كاملاً في موازنة الدولة للسنة المالية 6102/ 7102. هذا هو موقع التعليم في الجارتين الشقيقتين.. وقد حدد نائب رئيس وزراء اثيوبيا السبب في ذلك: «إن التحدي الرئيسي الذي يواجهنا هو الفقر والتعليم هو أداة مكافحته». فما هي يا ترى أداة مكافحته في السودان؟ وإذا كان أيضاً التعليم، فلماذا غاب العالي عن موجهات البرنامج الخماسي؟ أحمد عبد الرازق جامعة العلوم والتقانة- أم درمان