رتبت لهذا الحوار في صالة كبار الزوار بمطار حسن جاموس الدولي بإنجمينا ونحن في رحلة العودة للخرطوم. قلت لسعادة السفير صديق محمد عبد الله مدير مكتب د. مصطفى عثمان إسماعيل إن البرنامج في إنجمينا كان مزدحماً أرجو أن ترتب لي حواراً في الجو مع مستشار الرئيس ضحك الأخ صديق وقال لي بعد إقلاع الطائرة مباشرة عندنا اجتماع صغير لترتيب وقراءة بعض الملفات ويمكنك أن تأتي لنا بعد 45 دقيقة في المقصورة. وهذا ما كان مع بعض الترتيبات التي اقتضت أن يذهب الأخ عبد الله عبد الخالق سكرتير د. مصطفى في المؤتمر الوطني للجلوس في مقعدي في المقصورة الثانية وجلست أنا في مقعده مواجهاً د. مصطفى وبيننا طاولة كتابة وكانت الحصيلة هذا الحوار والذي ننشر هنا الجزء الثاني منه .. زيارة الرئيس كيف تنظرون للزيارة الأخيرة للبشير للقاهرة؟ - الزيارة الأخيرة للرئيس كانت زيارة سياسية من الدرجة الأولى حيث سبقت هذه الزيارة زيارة الأخ وزير الدفاع والأخ مدير جهاز الأمن الوطني ووزير الدولة بالخارجية واقتصرت لقاءاتهم على المجلس العسكري الأعلى إلا أن زيارة الرئيس اتسعت وشملت بالإضافة للمجلس العسكري الاعلى قادة الأحزاب السياسية وقيادات الشباب التي فجرت ثورة 25 يناير ومؤسسات المجتمع المدني من محامين ومفكرين وتطرقت لرؤية إستراتيجية كيف تكون العلاقة بين البلدين بوحدة بعد عشر سنوات إذن نخلص من كل هذا أن تقييمي لهذه المسألة أن الوقت لازال مبكراً ولكن هذا لا يعني أن الفكرة غير صالحة بل تحتاج أن نطرق عليها ونهيء الأجواء حتى يأتي الوقت المناسب لتحويلها لخطوات تنفيذية. الثورات واردة الآن تعيش المنطقة العربية أجواء الثورات وقرأت لك حديثاً يقول إن الثورات ورادة.. كيف تنظر لهذه التحولات وهل السودان سيدخل في هذا النطاق؟ - في تقديري الثورات التي حدثت في عدد من البلدان العربية لها أسبابها وأجملها في الآتي.. هي أسباب تكمن في ثلاثية الاستبداد والفساد والتبعية ولا اتفق مع أولئك الذين يسمونها بثورة الجياع أو ثورة العاطلين عن العمل رغم أهمية معالجة مثل هذه الأوضاع الاجتماعية. صحيح إن هذه الثورات بدأت في تونس وانتهت بمصر ولكنني أقول لا توجد دولة عربية محصنة من الذي جرى في تونس أو مصر والتحدي هو كيف يمكن أن نستفيد مما جرى في هذه الدول والعاقل من اتّعظ بغيره. السودان وماذا عن السودان؟ - السودان كواحد من هذه التجمعات العربية غير محصن ولكن تحصينه يتم بمعالجة الثلاثية التي ذكرتها ولكن هذه المعالجة ليست مسؤولية الحكومة فالاستبداد يمكن أن يكون من حاكم والقرآن يُشير إلى ذلك عندما يقول المولى عزّ وجلّ على لسان فرعون «ما أُريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» فهو بذلك يلغي كل ما سواه من السياسيين والمفكرين والعلماء كما أن الفساد يمكن أن يكون في حاكم وقد ضرب القرآن المثل بفرعون عندما قال فرعون «أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي» فجعل كل ما هو موجود في مصر ملكاً له من مال وشركات ولكن الاستبداد يمكن أن يكون من قبل المعارضة والتي تريد أن تستبد بالقرار الوطني والقرآن هنا يشير لاستبداد المجموعة ويُطلق عليها لفظ «الملأ» قال الملأ وهؤلاء يفتقدون المنطق والحجة ومثلاً هولاء يخاطبون نبيهم قائلين «لنخرجنكم من أرضنا .. أو لتعودون في ملتنا » خطاب يفتقد للحجة والمنطق. فنحن نتمنى أن نعالج مثل هذه الأوضاع في السودان في إطار حوار وتعالج ما بين الراعي والرعية وما بين القوة الحاكمة والقوة المعارضة حتى نستطيع أن نجنب السودان الهزات التي حدثت وتحدث في العديد من الدول العربية فالحوار الذي يُجريه الحزب الحاكم هذه الأيام مع الأحزاب الرئيسية وكتلة أحزاب المعارضة والذي يقوم على أساس الاتّفاق على برنامج وطني ثم المشاركة في الحكم على ضوء هذا البرنامج الوطني هذا الحوار بهذه الرؤية في تقديري يُعد خطوة يجب أن تجد الدعم والمساندة رغم قناعتي بأن الذي قاد التغيير في الدول العربية وهي علاقات اقتصادية وسياسية وعلاقات اجتماعية واللجنة العليا المشتركة بين البلدين. صحيح هناك قضايا عالقة بين مصر والسودان مثل قضية حلايب ولكني اتّفق مع أولئك الذين يقولون إنّه ليس مناسباً طرح هذه القضايا الآن ومصر تمر بمرحلة تحوّل حقيقي في تقديري سينعكس إيجاباً على العلاقات بين البلدين وسيُساهم في معالجة المشكلات التي لم تعالج في الأوقات السابقة. الوحدة مع مصر ً نبعت قبل ثورة 25 يناير فكرة الوحدة مع مصر وتحديداً جاءت من رئيس تحرير هذه الصحيفة الأستاذ مصطفى أبوالعزائم كيف تنظر لهذا الطرح؟ - فكرة الوحدة مع مصر تظل فكرة إستراتيجية ورؤية متقدمة وهي ظلت موجودة في أشواق الوحدويين من أبناء البلدين وربما التوقيت مازال مبكراً لذلك المطلوب الآن تعزيز هذه الدعوة وأن نجعلها حيّة الى أن يحين الوقت المناسب لطرحها على المستويات التنفيذية وأعتقد أن التحولات التي تجري على المستوى الدولي والإقليمي والتي تقول إن الكيانات العربية تظل مهمشة ومقزمة في زمن العولمة وإن الأفضل تكوين التكتلات الإقليمية وهذه النظرة تصب في مصلحة الداعين لتكامل أو وحدة مستقبلية بين مصر والسودان خاصة وأن هناك محاولات جرت من قبل مثل المحاولات التي حدثت أيام الرئيس الراحل جعفر نميري والتي كان مخططاً لها أن تنتهي بأن الذي قاد التغيير في الدول العربية والدول التي يحدث فيها حراك هذه الأيام ليست هي القوة السياسية ممثلة في الأحزاب وإنما الشارع. وأخص بكلمة الشارع مجموعات الشباب التي قادت هذا التغيير لذلك ينبغي ألا نغفل الحوار المباشر مع هذه القوة الحيّة من شباب وطلاب ومرأة ولا يقتصر الحوار فقط مع القوى السياسية ولعل ما حدث في الآونة الأخيرة في ميدان أبو جنزير من محاولات للخروج للشارع كشف مدى ارتباط هذه القوى بالشارع السياسي فالمطلوب من أجهزة الحكم المختلفة والمؤتمر الوطني أن تتصالح وتتجاوب مع الشارع السوداني العريض الذي ظل على الدوام مسانداً وداعماً لخطط المؤتمر الوطني ولحكومة أحزاب الوحدة الوطنية والاتّفاق الوطني. وإذا رجعنا قليلاً للوراء وأردنا أن نسقط ثلاثية الاستبداد والفساد والتبعية التي قادت للثورات في بلدان عربية وأسقطناها على الواقع السوداني فهل حقيقة يوجد استبداد في السودان أم لا أم أن القيادة في السودان موجودة ليل نهار وسط القاعدة فما من أسبوع يمر إلا ونجد القائد وسط حشود جماهيرية في واحدة من ولايات السودان العديدة أو نجده يومياً إما في المسجد أو في أماكن الأفراح والمآتم قيادة مرتبطة مباشرة بالجماهير وتستمع لآراء الناس من طلاب ومرأة وشباب وقاعدة مجتمع عريض. ثم الفساد.. أنا أقول بصراحة لا يوجد مجتمع من المجتمعات على مستوى العالم محصن ضد الفساد ولكن بنسب مختلفة ومع ذلك نسأل سؤال هل الدول التي حدثت فيها هذه الثورات مثل تونس ومصر هل مستوى الفساد الذي كان موجوداً فيها والذي تركز على القيادات والحكام وأبناءهم وأصهارهم هل هو موجود بهذه النسبة في السودان ورغم ذلك نحن نؤيد بشدة قرار الرئيس تكوين مفوضية مستقلة لمكافحة ومحاربة الفساد وهذه قريباً سترى النور وستعطى كل الصلاحيات المطلوبة وستكون بعيدة عن الحزب حتى تستطيع أن تؤدي عملها باستقلالية أما التبعية فنحن نستطيع بسهولة أن نقول هذا النظام تابع للشرق أو الغرب أو أنه نظام مفرط في قضايا الأمة مثل قضية فلسطين. فالحمد لله النظام الموجود في السودان أبعد ما يكون عن وصفه بالتبعية سواء تلك الخاصة بالقرار السوداني المستقل أو الموقف من قضايا الأمة العربية والإسلامية والأفريقية فإذا نحن غير محصنين عما جرى ويجري في هذه البلدان ونحتاج لكي نأخذ العبرة والدروس والمعالجة فيما حدث. لكنني أعتقد أن المقارنة بعيدة إذا ما اتفقنا أن هذه الثلاثية الاستبداد والفساد والتبعية هي التي قادت وستقود هذه التحركات التي تجري في مجتمعاتنا العربية.