{ ظلت الحرب مشتعلةً في جنوب السودان بين القوات المسلحة السودانيّة والحركة الشعبيّة وجيشها الشعبي منذ العام 1983م (أواخر عهد الرئيس الراحل جعفر نميري) وحتّى يناير من العام 2005م، تاريخ التوقيع على اتفاقيّة السلام الشامل في «نيفاشا» الكينيّة، وطوال تلك السنوات (22) عاماً، عاش في شمال السودان عدة ملايين من أبناء الجنوب، نزحوا بسبب الحرب، فاتَّخذوا قرارهم (الجماعي) و(التلقائي) بالرحيل شمالاً، والبقاء لنحو عشرين عاماً بين أهليهم في «كوستي»و«الخرطوم» و«مدني»، و«الأبيض» وحتى «وادي حلفا» البعيدة. { والجنوبيُّون لم يرحلوا إلى الشمال ويستقرُّوا به بسبب الحرب فقط، بل حتى خلال سنوات السلم، مثل الفترة من 1972م وحتى العام 1983م (أحد عشر عاماً) ظلَّوا يرحلون إلى الشمال ويستقرون به طلباً للخدمات، مثل ما يفعل «الشايقية» و«الدناقلة»أو «الرزيقات» و«الزغاوة»، أو «النوبة» و«الحوازمة» أو الجعليون والبديرية، و«الهدندوة» و«البني عامر»، والملايين من هؤلاء وأولئك استقروا منذ عقود طويلة في «الخرطوم» و«بحري» و«أم درمان»و«كسلا»و«بورتسودان»، وغيرها من مدن السودان الكبرى.. { تحرَّك الجنوبيُّون شمالاً، واستوطنوا هنا.. وهناك.. لأنه وطنهم، فلهم حقُّ التنقل، والتملُّك والعمل والإقامة في أيّة بقعة من بقاعه، شرقاً أو غرباً، شمالاً أو جنوباً. { والذين يزعمون أن الجنوب لم يكن جزءاً من البلاد حتى العام 1898م، تاريخ دخول الإنجليز إلى السودان (الشمالى)، فإننا نقول لهم إن إقليم (دارفور) مثلاً لم يكن أيضاً جزءاً من دولة السودان، رغم استمرار حكم الإنجليز لنحو (18) عاماً، حيث أفلحوا في ضمِّه إلى السودان بعد وصولهم إلى مناطق (بحر الغزال) الجنوبيّة وعبورهم (بحر العرب) بسنوات..! { الإنجليز حكموا بحر الغزال، وضمُّوا منطقة «أبيي» إلى مديريّة كردفان عام 1905م، لكنهم أنهوا حكم السلطان «علي دينار» وأخضعوا دارفور للتاج البريطاني ضمن مديريّات السودان في العام 1916م..! { هذا هو التاريخ، إقليم بحر الغزال سبق في الانتماء للسودان (المُحتل)، قبل انضمام إقليم دارفور الذي ظل (مستقلاً) لسنوات طويلة عقب احتلال الإنجليز بلادنا. { فلماذا إذن لم نمنح إقليم دارفور حق تقرير المصير؟! هل لأن جميع سكان الإقليم مسلمون خلافاً لجنوب السودان؟ وهل الحرب التي اندلعت في الجنوب عام 1955م كانت حرباً (دينيّة).. وهل كان هناك من يتحدّث في حكومة (الأزهري الزعيم) عن تطبيق الشريعة الإسلاميّة حتى يتمرَّد الجنوبُّون في «توريت»؟! { وإذا كانت الحرب (دينيّة)، قتل فيها المسلم الشمالي مواطنه المسيحي الجنوبي، فلماذا هرع ثلاثة ملايين جنوبي مسيحي إلى أحضان (القتَلَة) المسلمين في الشمال طوال عشرين عاماً من الزمان؟! لماذا لم يرتموا في أحضان النظام الأوغندي هرباً من مذابح المسلمين الشماليين؟! { خلاصة الإجابات على هذه الأسئلة تقول إن شعب الجنوب غائبٌ ومغيَّب، ولا علاقة له بكل هذه الأزمات (المصيريّة) التي صنعتها الحركة الشعبيّة بعد وصولها للحكم في العام 2005م. { ثلاثة ملايين جنوبي.. أكثر أو أقل، حاربوا مع الحكومة المركزية في عهد (النميري) أو (البشير) ضد الحركة والجيش الشعبي.. ولم يكن بينهم (خلايا نائمة) أو (طابور خامس)، ولو كان ملايين الجنوبيين في الشمال أو بضع آلاف منهم يمثِّلون (طوابير) لصالح الحركة الشعبيّة في سنوات الحرب، لدمَّروا الشمال بليْلٍ، وفجَّروا جسوره، وقصوره، وسدوده، ولأحرقوا مؤسَّساته الاقتصادية والخدميّة، أمَّا ما كان يردِّده بعض قادة «الحركة» تهديداً بما يُسمَّى (الحزام الأسود) حول العاصمة الخرطوم، فلا يعدو أن يكون تهويشاً وادعاءات.. { أحداث الاثنين الأسود نفسها نفّذها بعض (المخدوعين) من عضويّة الحركة الشعبية، ولا يتجاوزون بضعة (مئات).. ولو كانوا ملايين.. لسالت دماء ملايين الشماليين بالمقابل على شوارع الخرطوم. { إن أكبر (أكذوبة) مرتبطة بالاستفتاء القادم تصويره للرأي العام العالمي والمحلي باعتباره يمثل (خيار) شعب جنوب السودان..!! أين هو شعب جنوب السودان؟! { إنّه استفتاء لأخذ رأي جنرالات «الجيش الشعبي» وطغمة العسكريين ونخبة السياسيين المتحكِّمين في قرار الجنوبيين.. الجاثمين على صدور أهلنا في الجنوب.. { لو كنَّا نعلم أن نتيجة الاستفتاء القادم تمثِّل خيار شعب الجنوب، لكنَّا أوائل المرحِّبين بها، ولو جاءت (بالانفصال)، لكنني مقتنع، والحكومة كذلك، وأمريكا، وأوربا، وإسرائيل، أن شعب الجنوب لا علاقة له بالاستفتاء القادم..!! فهل نسمح بتمرير هذه (المسرحيّة)؟!