مَن يكتب نهاية مأساة الصومال؟. عندما سيطرت (المحاكم الإسلامية) على قيادة الصومال، بسطت الأمن وأزالت تجارة المخدرات. ولكن قبل أن تضطرد مسيرة الإصلاح كانت نهاية ( المحاكم). حيث أن صعود الإسلاميين إلى الحكم بطبيعة الحال أمر لن ترضى عنه واشنطن. فكان أن أوعزت إلى أثيوبيا، حيث تدخلت عسكرياً وأسقطت نظام (المحاكم الإسلامية)، لتعيد الصومال إلى المربع الأول، مربع غياب الدولة والحرب الأهلية الدامية المزمنة. لم تزل القوات الأثيوبية حتى اليوم تحتلّ غرب الصومال. وقد أعلن الرئيس الأثيوبي ميلس زيناوي أن يجب إبادة تنظيم الشباب (الإسلامي). غياب الدولة حرم الصوماليين حتى من صيد الأسماك في مياههم الإقليمية، التي بسطت عليها دول أخرى سيطرتها. وبينما صار الصيادون الصوماليون محارَبين في أرزاقهم، أصبحت سفن الصيد الأجنبية تنشط في المياه الصومالية، مما دعا إلى إستشراء ظاهرة القرصنة البحرية. أخطاء السياسة الأمريكية في الصومال من هبوط المارينز (27 ألف) في مقديشو في ديسمبر 1992م إلى اسقاط نظام حكم (المحاكم الإسلامية)، دفع ثمن فاتورتها الباهظة شعب الصومال دماءً وموتاً، ونزوحاً ولجؤاً، وخوفاً وجوعاً. تطرّف السياسة الأمريكية في تصفية الإسلاميين والمقاومة الوطنية الصومالية، دعا تنظيم (الشباب) الإسلامي إلى الردّ بتطرُّف مماثل، فأعلن ولاءه لتنظيم (القاعدة). ولتبرير مذابحها ضد أبطال المقاومة الوطنية الصومالية، ظلت الدعاية الأمريكية تواظب على تصويرهم بأنهم يعتنقون أفكاراً شاذة غريبة. فتبث تلك الدعاية المبتدلة، على سبيل المثال، أن تنظيم (الشباب) يرى أن كرة القدم حرام، ويمنع الفتيات والسيدات من ارتداء حمَّالات الصَّدر (سوتيانات) لأن ذلك غشّ وتدليس وتزوير، ويفجِّر قبور الأولياء والصالحين، ويرمي القنابل على مشاهدي مباريات كأس العالم وهم يجلسون أمام شاشات التلفزيون. تلك الدعاية المضادة منعت العالم من الإطلاع على الصورة الحقيقية في الصومال. صورة حركة مقاومة وطنية تقاتل من أجل حرية شعبها ووطنها، وتقدم الأرواح لتحرير بلدها من الإحتلال. ما تتعرْض له حركة التحرير الإسلامي الوطني في الصومال من دعاية مضادة، في كفاحها المسلّح ضد الغزاة الأجانب، تعرَّضت له من قبل حركة (طالبان) في أفغانستان في بداياتها، عندما كان يشين سمعتها الترويج بأنها تطلق النار على أجهزة التلفزيون وأحياناً تشنقها على جذوع الشجر وتحبس النساء في البيوت وتطلق سراح طيور الزينة، وغير ذلك من (التنميط) السَّاخر الشرير للإسلام والحركات الإسلامية التحررية. (طالبان) قادت الجهاد ضد الإحتلال الشيوعي وحررت وطنها. واليوم تقود الكفاح ضد الإحتلال الأطلسي لتحرير بلدها. المقاومة الإسلامية الوطنية الصومالية تخوض اليوم معاركها ضد مرتزقة الجيش الأوغندي والجيش البورندي والجيش السيراليونيّ، وغيرها من جيوش المرتزقة الأفارقة الغازية التي تحارب شعب الصومال داخل أرضه، وتسفح دمه في وطنه، وتقتله في عاصمته مقديشو. كان لذلك العدوان الأوغندي والبورندي السافر ضد شعب الصومال انعكاساته الإقليمية، حينما قرَّر شباب الصومال نقل القتل والتفجيرات إلى عاصمتي بورندي وأوغندا. فكانت تفجيرات (كمبالا) التي راح ضحيتها (79) قتيلاً في 11/يوليو 2010م. قبل تفجيرات (كمبالا)، كانت هجمات المقاومة الوطنية الصومالية تستهدف الحكومة الإنتقالية (التي تحرسها الجيوش الأجنبية)، كما تستهدف قوات الإتحاد الأفريقي (الجيش الأوغندي والجيش البورندي) التي تحتل مقديشو. بسبب الغزو الأجنبي لأرض الصومال وعاصمة الصومال، كان قرار المقاومة الصومالية بنقل العمليات العسكرية إلى عواصم الدول التي أوفدت جيوشها إلى مقديشو، وسفحت دماء شعب الصومال في عاصمته. تفجيرات (كمبالا) أوضحت أن تنظيم (الشباب) الصومالي بعد إعلان ولائه لتنظيم (القاعدة)، أصبح يعتمد تكتيكات (القاعدة) القتالية. وقد كان السودان بصدد إرسال وحدات عسكرية سودانية إلى مقديشو، لتنضم إلى نظيراتها اليوغندية والبورندية للمشاركة في الحرب ضد المقاومة الصومالية، وذلك وفقاً لقرار قمة الإيقاد. لكن لحسن الحظ أن السودان استدرك قراره. حيث كان ذلك القرار سيضع السودان في خط المواجهة الاول مع تنظيم (الشباب)، وغيره من تنظيمات المقاومة الوطنية الصومالية. كان ذلك القرار سيضع السودان في خط المواجهة مع حركات المقاومة الإسلامية الوطنية في الصومال، كما وضعت السياسة الأمريكية الباكستان في خط المواجهة مع (طالبان). وكم كان غريباً إن يتمّ إرسال (2000) جندي سوداني إلى الصومال للقتال ضد المقاومة الصومالية، بينما الجيوش النيجيرية والرواندية والأثيوبية تعربد في دارفور وكردفان (أبيي)!. وغاب عن الذهن حينها أن دخول السودان المستنقع الصومالي، كان بغير شك سيفتح باباً تهب منه رياح (القاعدة) على السودان. يُذكر أن الأممالمتحدة، برعاية أمريكية، تخطِّط لزيادة (قوات حفظ السلام) في الصومال، لتصل إلى (20) ألف جندي. وقد رحبت أوغندا وبورندي بالزيادة، وأعلنتا الإستعداد لإرسال مزيد من الوحدات العسكرية إلى الصومال. كارثة الوضع الصومالي خلال مايزيد عن عشرين عاماً، هي نتيجة مباشرة لخطأ الحسابات السياسية الأمريكية. خلال عشرين عاماً، أسقطت أمريكا عسكرياً كلّ حكومة صومالية قادرة على بسط الأمن والإستقرار. وذلك من الجنرال محمد فرح عيديد إلى حكومة (المحاكم الإسلامية). يشار إلى أن أمريكا فشلت عند غزو الصومال في فرض رجلها رئيساً للصومال، وهو الجنرال (أبشر). بعد أن أبعدته أمريكا عن كرسي الرئاسة، لقى الجنرال (عيديد) مصرعه خلال معارك الحرب الأهلية. كان (عيديد) قائد المقاومة ضد الغزو الأمريكي للصومال في ديسمبر 1992م. يذكر أن الجنرال (عيديد) عمل خلال سنوات المنفى (سائق تاكسي) في العاصمة واشنطن. الراحل الخاتم عدلان أيضاً خلال سنوات المنفي في لندن في التسعينات عمل (سائق تاكسي). وعلى ذكر الجنرال (عيديد) يشار إلى أن صحيفة (واشنطن بوست) في أغسطس 1993م عندما وضِع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، نشرت أن وزارة الخارجية الأمريكية قد أخطرت الكونجرس بأن وضع السودان في تلك القائمة كان بسبب أن السودان يدعم الجنرال عيديد. وكان ذلك السبب غير الحقيقي لوضع السودان في قائمة الإرهاب، ذلك السبب غير الحقيقي المدوَّن في السّجلات الرسمية للحكومة الأمريكية، كان لسماجته مدعاة لضحك أعضاء لجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس، وذلك على حدّ تقرير صحيفة (واشنطن بوست) الذي نشرته في تغطية لوضع السودان في قائمة الإرهاب في 13/أغسطس1993م. الصومال اليوم مستنقع خطير تتصارع على ساحته الجيوش الأجنبية والمصالح الأجنبية وأمراء الحرب والقراصنة والمجموعات المسلّحة مثل تنظيم (الشباب) ومنظمة (حزب الإسلام). كما وصل إلى ساحات معارك الصومال مقاتلي (القاعدة) قادمين من أفغانستان والعراق والشيشان، ليخوضوا معارك جديدة في حربهم الأممية ضد أمريكا ومواليها. حيث أن أمريكا، في حربها الباردة الجديدة ضد الإسلام السياسي وحربها الساخنة ضد الإسلام السياسي، هي التي بادرت بتلك الحرب الأممية ضد الإسلاميين. الحرب الأهلية المعقَّدة المشتعلة في الصومال قرابة عقدين، هي خطر كبير على منطقة القرن الأفريقي وأمن البحر الأحمر و جنوب الجزيرة العربية. من العقل أن تصبح دول المنطقة جزءاً من الحلّ وليست جزءاً من المشكلة. من العقل ألاّ تصبح دول المنطقة طرفاً في الحرب الأهلية الصومالية. من العقل أن تلتزم (العزلة المحيدة)، وأن تبتعد عن النزاع الصومالي وألا تقترب من مستنقعه الدامي. هناك حاجة تاريخية إلى مبادرة سياسية ثلاثية مشتركة أطرافها الإتحاد الأفريقي والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. مبادرة ثلاثية تطرح حلّ سياسي يضع نهاية لمأساة الصومال. مبادرة ثلاثية مستقلة عن الأجندة الغربية والضغط الغربي. المشهد السياسي الصومالي اليوم يفيد أن الإتحاد الأفريقي منحاز، والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي متفرِّجان يمكن للسودان أن يلعب دوراً محورياً في ترتيب المبادرة الثلاثية، بالتنسيق مع مصر والسعودية وتركيا وأثيوبيا. أمريكا تنظر إلى الصومال باعتباره فصل من فصول حروبها النفطية. قال الأمير الحسن بن طلال (وليّ عهد الأردن السابق) في محاضرة بقاعة الصداقة بالخرطوم (إن مشكلة الصومال سببها اكتشاف النفط في الصومال). برغم كلّ ما حدث من مآسي خلال الحرب الأهلية الصومالية، ماتزال تلك الحرب تستبطن المزيد من المخاطر المحتملة على دول المنطقة والأمن الدولي والتجارة الدولية. تداعيات الإنغماس الإقليمي والدولي غير المدروس في الشأن الصومالي، قد تحمل رياح (القاعدة) لتهب على دول المنطقة، وغيرها. كما أن إستشراء القرصنة الصومالية قد يتطوَّر إلى تهديد الملاحة الدولية في المحيط الهندي ومياه البحر الأحمر. لا أحد على ظهر الأرض اليوم يعلم، إن كانت هناك علاقة نشأت أوقد تنشأ بين (القراصنة) وتنظيم (القاعدة)!.