مضى زمان كانت حكومة المفتشين هي الحاكمة لكل السودان وبنظام إداري بسيط ليس فيه تعقيد مثل التعقيد الذي نراه اليوم.. فقد كان المفتشون يمارسون مهامهم بدقة دون ان يصاحبها إفراط أو تعسف في استخدام الحق، وبهمة عالية دون أن يحملوا المواطنين ما لا يطيقون، وفي كل ذلك يحفظون هيبة الدولة ويسترون حال الناس.. فلم يشتكِ احد من حق ضاع ولم يجده.. ولا من انفراط في عقد الامن ولا ضائقة معيشية يصعب معها مواصلة الحياة. وما نحكيه عن ذلك العهد ليس من نسج الخيال.. بل كان واقعاً يعيشه الناس ويتمتعون بعدالته ونزاهته. إذا كان ذلك يحدث في زمن المفتشين البريطانيين من بعدهم السودانيون قبل أكثر من خمسة عقود من الزمان.. فعلينا أن نتساءل هل تطورت الحكومة في ادارتها للشأن العام أم تراجعت؟؟.. ولا أظن أنني في حاجة للإجابة فالحال يغني عن السؤال.. وما نراه اليوم يكفينا عناء البحث عن الإجابة.. فإذا كان المواطن في ذلك الوقت يقابل المفتش في مروره الشهري على الاقاليم أو في مروره الإسبوعي على أرباع المدن.. ويستطيع ان يقدم له آراءه ويبث له شكواه.. فإنه اليوم وبعد مرور خمسين عاما لا يستطيع أن يقابل الوالي او المعتمد.. لأن الأجهزة الحكومية الآن رغم تعددها وشيوعها وكثرة اسمائها تفرض حائلاً بين المواطنين والمسؤولين.. وتبني حائطاً سميكاً بين الراعي والرعية.. فلا تصل شكاوى المواطنين ومعاناتهم الى ولاة الأمر.. إلا عبر الصحف التي ربما لا يقرأها أكثر المسؤولين.. وإن قرأوها فانهم يقرأونها عبر تقارير صحفية يرفعها مديرو المكاتب او الاعلام ويتخيرون من التقارير ما لا يعكر صفو المسؤول ولا يفسد عليه بهجته بالمنصب.. وهذه حقيقة يجب أن تقال.. وظاهرة سيئة ومضللة يجب أن يراجعها المسؤولون أنفسهم.. إن معاناة المواطنين اليوم قد وصلت حداً لا يمكن السكوت عليه.. وبلغ الفقر مبلغه بالكثير من الأسر المتعففة التي لا تسأل الناس إلحافاً.. مع كل هذا نجد بعض الوزارات تتحدث بصورة فوقية عن الفقر.. وعن عدد المواطنين الذين ازدادوا فقراً.. وأين وصل بهم الفقر.. دون ان تكون هنالك معالجات حقيقية وملموسة؟!. إن الموقف الآن أيها المسؤولون أصبح اكبر من التقارير التي تقول ان عدد الفقراء وصل الى 46% كما تقول وزارة الرعاية الاجتماعية.. وهي تقارير لا تعكس الصورة الحقيقية للواقع الذي يعيشه أكثر من 95% من المواطنين وليس 46% فقط.. وما يجب أن ينتبه له ولاة الأمر الآن هو الجوع والذي هو أشد مضاضة من الفقر.. فالفقير هو الذي لا يجد قوت يومه والجائع لا يجد قوت وجبته الواحدة.. وإذا كان رئيس المجلس الوطني يطلب من المواطنين شدّ الأحزمة على البطون.. ووزير المالية ينذر الناس بأيام صعبة تنتظرهم.. وإذا كان الفنيون والاقتصاديون يتكلمون عن ان نسبة التضخم ارتفعت من 15% الى 21%.. فان هذا وضع يجب ان يتوقف عنده الجميع ويتداركوه قبل ان يتحول الى كارثة.. فهذا يعني ان اعداد ولا أقول عدد الذين يقضون نهارهم جوعى في ازدياد وتفاقم وان عدد الذين يبيتون ليلهم جوعى في تفاقم وتزايد بمتوالية هندسية. وفي ظروف مثل هذه يجب ان يكون اهتمام الحكومة اكبر بكل ما يتعلق بقوت المواطنين من حيث الرقابة والمتابعة.. إلا ان الذي يحدث في الاسواق هو ان وزن الرغيف يتناقص وسعره يتزايد.. وحبات الفول المصري في (الصحن) لا تحافظ على عددها الا اذا تضاعف السعر من جنيه واحد الى جنيهين.. وهكذا الحال بالنسبة للزيت والطماطم.. أما البامية والبطاطس فإن بائعها يتحدث عن تزايد أسعار الدولار.. بل حتى بائع (الدوم واللالوب) اصبح يزيد أسعار بضاعته ويتحدث عن الدولار في ظاهرة تدعو للحيرة والدهشة. أما الصغار فإذا ما ألهاهم اللعب صباحا فلابد أن يأكلوا بعد اللعب.. وكذلك وهم يستلقون ليلاً لابد ان يجدوا ما يسدون به رمقهم.. وعما قريب سوف تفتح المدارس أبوابها.. وتضيف إلى قائمة الطعام قوائم أخرى من كراسات وأقلام وزي مدرسي ورسوم (مفروضة) على الآباء وما الى ذلك من متطلبات التعليم التي تتفنن فيها المدارس الخاصة والحكومية على السواء.. فترهق ميزانية الأسرة (المرهقة أصلا) وتصبح خصماً على ميزانية الطعام والشراب. ولا ريب أن الجوع يؤدي الى الأمراض.. ويا ليتها كلها امراض بدنية إذن لهان الامر نوعاً ما.. بل وهذا هو الأسوأ فانها أمراض اخلاقية ولا تنجو منها حرائر الاسر الكريمة بل ولا الرجال.. وإذا كان الحذر والستر اخفيا الكثير من تلك الامراض الأخلاقية.. فان الرشاوى والاختلاسات والاعتداء على المال العام فاحت رائحتها حتى تم اكتشافها وافتضحت الكثير من الأسماء التي تدعى التعفف والشرف.. لكن لا أحد يهتم بمن يسرق ومن يختلس.. فالجوع يعمي البصير والبصر.. ولو أن الاممالمتحدة تعرف الجائع بأنه (من لا يجد كفايته اليومية من الغذاء المتنوع).. فإن تعريفها هو نوع من الترف عندنا.. فمن يفطر بالعصيدة ويتغدى ويتعشى بها يشعر وكأنه امتلك الدنيا.. في حين انه جائع في نظر الاممالمتحدة لأنه يأكل صنفاً واحداً من الطعام ولا ينوع طعامه بين السكريات والفواكه والحوامض ... لذلك فإن أمر الجوع عندنا يختلف عن ذلك الجوع الذي تكتب عنه المنظمات الدولية.. فالجوع عندنا في قلة الطعام وانعدامه ونقصان الوجبات من ثلاث وجبات الى اثنتين ومن وجبتين الى وجبة واحدة.. وتناقص الوجبات هو حقيقة مؤلمة ظهرت في المجتمع وتكاثرت واصبحت حديث الجميع والذين لا يهمهم وزير المالية ولا الدولة برمتها.. ولا يأبهون للاختلاسات ولا الى هروب الحكومة من مسؤولياتها الاجتماعية والخدمية.. وهذه حالة متأخرة للغاية من اللامبالاة وعدم الاكتراث بمصير البلاد.. وما كان الناس ليصلوا اليه لو انهم يجدون ما يأكلون وما يسدون به رمقهم ويسترون به عرضهم. لقد كنا عما قريب نتحدث عن الخصخصة والانفتاح الاقتصادي والتحرير كسياسات نتجادل عن مدى جدواها لاحداث التنمية والنهضة بالقطاعات الاقتصادية المختلفة.. وكان أقصى ما يذهب اليه النقد هو انها بصفة عامة قد عملت على محو الطبقة الوسطى من الوجود.. والمعروف ان التحرير الاقتصادي يمثل القاطرة التي قادت وتقود حركة التحرير السياسي في كل بلاد العالم ولم تفعل في أي بلد من تلك البلدان كما فعلت من مآسي في السودان.. رغم ان بلادنا كانت الأوفر حظاً لو تم الاهتمام بقيام قطاع زراعي ناجح على ضفاف النيلين الابيض والازرق وفي سهول القضارف وعلى جبال النوبة.. ونهر القاش وتم استغلال موارد غرب السودان في انتاج الحبوب الغذائية والحبوب الزيتية والصمغ العربي وتقوية التجارة الرائجة مع دول الجوار في قطاع الثروة الحيوانية. لكن وبكل أسف تآكلت الطبقة الوسطى من رجال الأعمال الوطنيين رويداً رويداً.. ثم تلاشت.. وذهبت معها طبقات الموظفين ذوي المرتبات والأجور الذين كانوا الى وقت قريب مستورين في دورهم.. وتكفيهم اجورهم لتغطية منصرفاتهم الأساسية من مأكل وملبس وتعليم وعلاج.. وتفيض بعض الاموال فيدخرونها.. وفي الوقت الذي ذهبت فيه سياسات التحرير الاقتصادي بالبعض الى معالي الثريا.. هبطت بآخرين الى الدرك الاسفل من الثرى. كما أقعدت أصحاب الأموال الوطنيين الذين اختاروا طريق الصناعة وحركوا جوانب في الاقتصاد السوداني لم تكن مطروقة من قبل.. واستخدموا فيها آلافاً من العاملين.. وصقلوا فيها مهارات عديدة.. وعاشت عليها أسرهم.. ولكنهم ضاعوا جميعاً مع ضياع الصناعة بعد التحرير.. بعد ان صرنا لا ننتج سوى المشروبات الغازية والمعدنية.. ونفتح موانئنا البحرية ومطاراتنا لاستيراد الألبان والاجبان والزيوت ونتحدث عن استيراد السكر في الوقت الذي نملك فيه ستة مصانع لصناعة السكر. الصحافة