لا شك في أن الأوضاع السياسية المضطربة التي يمر بها السودان في الوقت الحاضر هي الأسوأ على الإطلاق على مر التاريخ ، و ذلك لأن البلاد باتت مهددة بالإنقسام إلى أكثر من دولتين. و هذا الوضع الصعب ليس وليد الصدفة و إنما هو تتويج لتراكمات الأخطاء التاريخية التي إرتكبتها الحكومات الشمالية المختلفة - الإنقلابية منها و المنتخبة- في حق الجنوبيين الذين إختاروا الوحدة قبل فجر الإستقلال. بدأت مطالب الجنوبيين بسيطة عام 1947م متمثلة في النظام الفيدرالي إلا أن النخبة الشمالية آنذاك ربطت تلك المناداة بالرغبة في الإنفصال، فوجد هذا المطلب معارضةً مستميتة من الساسة الشماليين فتفجرت الأوضاع قبيل إستقلال السودان، إلا أن أول الأخطاء التاريخية و التي كانت خطاً إستراتيجياً في حق السودان ككل هو تبني أول حكومة إنقلابية مبدأ المواجهة و الإخضاع ، و عدم الإستجابة لمطالب الجنوبيين، ثم الشروع في تقديم و تعريف السودان كدولة عربية إسلامية . كانت النتيجة إزدياد الهوة بين الشمال و الجنوب و إشتداد الحرب رويداً رويداً ، ثم بدأت فصول قصة نقض العهود و المواثيق... فكلما نقض الشمال عهداً عادت الحرب و زاد سقف مطالب الجنوبيين... و ربما يستعد الآن مولانا أبيل ألير لإضافة إتفاقية السلام الشامل إلى كتابه المرموق ، و ذلك لأن سلوك المؤتمر الوطني هو ذاته سلوك سابقيه من الأحزاب الشمالية التي حكمت السودان و تملصت من عهودها و مواثيقها مع جنوب السودان ، إلا أن سقف مطالب جنوب السودان سوف لن يقف عند حد تقرير المصير في حالة تمكن المؤتمر الوطني بشكلٍ ما من التملص من آخر بنود إتفاقية نيفاشا ألا و هو الإستفتاء على حق تقرير المصير لجنوب السودان... سواء كان ذلك عن طريق التلاعب بنتيجته حتى تؤول للوحدة أو عن طريق الرفض الصريح لقيام الإستفتاء و عدم الإعتراف بالنتيجة إذا آلت إلى الإنفصال. في حالة وقوع الوحدة المستحيلة و زوال خطر الإنفصال ذلك لا يعني نهاية مشكلات السودان بل هنالك سقف مطلبي آخر قد لا يخطرعلى بال في حالة- إستمرار النمط الحالي للثقافة الآحادية- والذي تتبناه أغلب الأحزاب الشمالية بصورة عامة ، و المؤتمر الوطني على وجه الخصوص ، و إستمرار التعالي العرقي و الديني و يتمثل ذلك في قيام حركات قومية إفريقية سودانية متطرفة تطالب بخروج العرب من السودان ...! إن وجدوا...! أنا لست من دعاة التطرف و لكن النظرة المستقبلية ضرورة تقتضيها المصلحة الوطنية ، و لو كنت إنفصالياً اليوم فقد أكون وحدوياً غداً إذا ما اختفى النموذج السياسي التقليدي الذي يستغل الدين لتحقيق أهدافه ، و يتوهم اللون البراق-المستمد أصلاً من الأتراك و الإغريق و الإنجليز و المصريين - كنقاء عرقي. في الختام أقول إن سودان المستقبل- بغض النظر عن نتيجة الإستفتاء القادم- هو سودان ديمقراطي متحد و متقدم بمشاركة الجميع ... سودان يحترم الثقافات المختلفة و اللغات و الأديان و المعتقدات ... سودان لا يفرض فيه دين أو ثقافة أو لغة محددة ، سودان يحترم الحريات... سودان يحاسب فيه الحاكم قبل المحكوم... أما أصحاب المشروع إياه فلن يكونوا سوى بقعة سوداء في صفحة مظلمة من تاريخ السودان الحديث.