قال لي الكاتب الفيلسوف المصري محمود أمين العالم وانا التقي به في دار نشره بالقاهرة عام 1997م، بأن رواية «الغنيمة والإياب» للدكتور مروان الرشيد لا تقل ابداعا إن لم تتفوق على روايات الطيب صالح. ولعله صادق في ما ذهب اليه، أو ربما جانبه التوفيق في ذلك لا يهم.. على كل أن رواية «مرافئ السراب» للروائي عباس علي عبود لا أغالي ان قلت بأنها من اعظم ما قرأت من روايات أخيراً، فهي تأتي في مصاف «دانفنشي كود code» لدان براون و «طفل الرمال» للطاهر بن جلون و «سمرقند وليو الإفريقي» لأمين معلوف و«الكيميائي والظاهر» لباولو كويلو، وغير ذلك من روائع الرواية العالمية. فعباس علي عبود في تقديري كاتب مبدع إلى درجة الادهاش، ومسكون الى درجة الهوس بفكرة الرحيل، وهو في هذا شبيه بالشاعر الراحل المغفور له بإذن الله عبد الرحيم ابو ذكرى، ورحيله بالليل ومكابدته للبرد والثلوج والمطر في الاتحاد السوفيتي حتى توحد معها واندغم فيها في رحلة الأبدية. ساءلت نفسي عدة مرات وانا اقرأ رواية «مرافئ السراب» للكاتب عباس عبود، عما اذا كانت هذه الرواية في حقيقتها ضربا غير هتافي، وهمسا شفيفا من ضروب السيرة الذاتية أرادها الكاتب لنفسه؟ الا انني اقنعت نفسي بأن ذلك ليس بالضرورة في شيء، إذ ليس كل ما يكتب المبدعون بوح على الورق للذات المبدعة، على الرغم من أني اجد كثير شبه بين طارق عبد المجيد الشخصية المحورية في الرواية والمؤلف، خاصة في ما يتصل بالنظرة الفلسفية العميقة للأشياء، والارتباط اللصيق بالأرض، أي «البلدة» التي رأى النور فيها لأول مرة، وللنهر في «أليس» Alice الذي عشقه الى درجة الوله حال معظم سكان «أليس» الذين يخلعون على هذا النهر الكثير من الاساطير، وتدور كل حياتهم حول فيضانه وتحاريقه وسمكه وجروفه وسواقيه وجزره وروحه المقدسة المترسبة في لا وعيهم الجمعي. اجتاحتني رغبة شديدة في البكاء، وأنا أقرأ ما جاء في الصفحة الخامسة عشرة من هذه الرواية، الأبيات التالية من قصيدة «نشيد الإنشاد» لنوار التي يرجع تأريخها الى عام 1973م: النهر في أليس.. مد كفه الندي للجميز والنخيل وأرهف الآذان من قراره الملئ بالنجوم والحصى... تحدثني نوار... أود أن أنام... في أريج صوتك المنغم الجميل ها أقبل المساء أقول.. عندما قرأت هذه الكلمات تذكرت بول فاليري حينما قال بأنه لا يعيد قراءة ما كتب في الماضي حتى لا يصاب بالغرور او بالندم الملئ بالخجل من ذلك الجهل الفاضح لذلك الكاتب الذي كانه في يوم من الايام. وأضيف بدوري بأنه لمن المخجل حقا الا نكون شيئا حتى يذكرنا عباس عبود في رائعته هذه فله الشكر. وتتسم رواية «مرافئ السراب» بحشد من القصص مما يجعل منها رواية مركبة كعين الذبابة المنزلية إن جاز لي التعبير، تأخذ جملها ومعانيها برقاب بعضها البعض في تلاحم سيمفوني بديع السبك والتناغم، فهي شديدة الشبه بأعمال باخ وموزارت وجايكوفسكي في شهرزاده وبحرية بجعه. وتنسجم الجمل في إلفة خالقة هارموني ورسما بديعا بالكلمات. واللغة لدى عباس عبود لغة شاعرية ناصعة الديباجة عميقة المحتوى، تمتاح من نظرة عميقة للحياة وثقافة واسعة متعددة المنابت. انظروا معي الى شاعرية هذه اللغة في قوله: نتاشا تومانوفا.. شمس آفلة.. صهيل جريح.. طفل يحبو فوق بساط الريح!! ص 131 نتاشا تومانوفا كانت نشيدا صادحا في بيداء وجداني القاحل ص 153. هذا شعر دون أدنى شك! وتأملوا معي أفادكم الله قوله في الوجود والعدم ص 135 136 من رواية مرافئ السراب: «أحياناً ينتابني شعور بأن الحتمية كاملة ولا مكان للصدفة.. وأحياناً أخرى يلازمني إحساس مرير بعبث الوجود.. الحتمية المطلقة لا يمكن ان تتحقق!!! والعبث موجود...». انتهى الاقتباس. هذه فلسفة لا مشاحة، فهو كاتب فيلسوف وفيلسوف كاتب. ويقول في موضوع آخر من الرواية ما يلي: «بين قمع الجسد في الشرق وامتهانه في الغرب تضيع ملامح الحرية ومشروعيتها...! ص 139 فرواية «مرافئ السراب» مليئة امتلاء البيضة بلحمها كما قال وليم شكسبير، تطوف بالقارئ حول تراجيدا سجن كوبر يوم أن كسر القلم وخنق الصوت الصائح في البرية، كما خنق من قبل صوت يوحنا المعمدان. يقول الراوي: «وقف الأستاذ في تماسك اسطوري امام منصة الاعدام بملابس السجن وعلى رأسه غطاء الاعدام الاسود وكلماته امام المحكمة تضئ شعاب التاريخ وتفتح دروبا لتحرير الانسان.» انتهى الاقتباس. ثم يدلف الكاتب الى مأساة اخرى هي محرقة الضعين «يوم أن خيم طقس وحشي صاعق فوق محطة السكة الحديد ورائحة اللحم الآدمي المشوي تدمغ بالعار جبين التاريخ المعاصر.» انتهى الاقتباس ثم يأخذ القارئ الى مأساة الاطفال الضائعين، فيعيد الى الاذهان عذابات اطفال مخيمات النزوح واللجوء The Lost Boys الذين تحدث عنهم فالنتينو دينق في كتاب What is the what للكاتب الامريكي Dave Eggere وتحدث عنهم أمانول جال في كتاب Achild Soldier. فعباس عبود كاتب إنسان مكتمل Accomplished writer كما يقولون بالانجليزية. غاوٍ للحرية وغاوٍ للعدالة الاجتماعية التي تنتشل غمار الناس من ذل الفاقة وتجبر الجلادين الى مراقي الإنسان الذي كرمته كل الاديان. فهو كاتب رطب الكبد ولا عجب في ذلك، إذ كل من رهف حسه ورقت شمائله فهو بالضرورة إنسان. فعباس عبود حينما يتحدث بحب لا تخطئه عين عن بيت الوداعية وبيت الشراب وعائشة ام سكك وابنها محجوب الذي قتل في أدغال حرب الجنوب وبخيت التمساح والحاج سعيد ومريم بدر الدين والشِّعبة التي تسند سقف الغرفة المتهالك والنخلة والرصيف الحجري على ضفة النهر وحلة فلاتة، يذكرني كثيرا بعدسة محمد المهدي المجذوب اللاقطة لأوضاع بائعة الكسرة وشحاذ في الخرطوم ودرويش في ساحة المولد وفتى يضرب النوبة ضربا فتئن وامرأة يلفها عبق أريج الطلح، وآخر يجترع المريسة في الحواني ويهزر لا يلام ولا يلوم!! كما قال المجذوب عليه الرحمة. ولا شك لدي في أن التسفار والتقلب في الامصار يخصب كثيرا من تجارب الكاتب، اي كاتب مبدع، ويمنح أعماله الابداعية عمقا قد لا يتأتى لمن حاصرته الجغرافية فقبع اسيرا لسجنها. لهذا الاعتبار يتحدث عباس عبود عن حواري القاهرة وغرفها العتيقة الرطبة والجوع في ليالي شتائها، ثم يدلف الى الحديث عن الثورة البلشفية وعن مأساة شيرنوبل وشارع نيفسكي والتماثيل التي تزين سقف متحف الارميتاج، وعن نتاشا تومانوفا، وعن نهر النيفا، وعن الروعة الباذخة لمدينة saint petersberg التي يقال إنها أجمل مدن الدنيا، وعن دستيفسكي ومايكوفسكي وبوشكين وسولجشن العائد لموطنه بعد عشرين عاما قضاها في المنفى نظير كتابه الخطير «أرخبيل قولاق». فقد سافر عباس عبود كثيرا، ورأى كثيرا، وعايش كثيرا، رغم صغر سنه، لهذا فهو المتسائل في حيرة في ص 86 من كتابه «مرافئ السراب» بقوله: «هل ولد الانسان على صهوة الرحيل؟!» «الغجر سادة النزوح والحنين، اختصروا الجغرافية لصالح التاريخ، تنضح أغنياتهم بالاشجان.. استوطنوا ذاكرتهم واوطانهم. وفي اتون الهجرات العنيدة احتفظوا بمعنى الوطن كهوية وثقافة. فالرحيل التام عن الوطن مستحيل». ففكرة الرحيل تسيطر على عباس عبود سيطرة تامة، وهي في تقديري سمة من سمات القلق الملازمة للفنانين شعراء كانوا ام روائيون او غيرهم، فهم «شراع لا يطيق الوصول، وضياع لا يريد الهدى» كما قال نزار. فعباس عبود واقف على ضفاف نهر نيفا الازرق وبين كتدرائيات saint petersberg القيصرية المترفة الجمال وفي معية نتاشا تومانوفا ينسرب بخيال طارق عبد المجيد ليعود الى الكوة Alice على ضفاف النيل الأبيض، القرية التي احب وعاهد فيها اهله التماسيح والسعلاة والغول وكثيرا من موروثات أرواحيات أسلافهم. وافتتان عباس عبود بالغجر جزء من عشقه للحرية وبغضه الشديد لكل ما يكبل الإنسان، وهو في هذا شبيه بفردريكو قارسيا لوركا صاحب «عرس الدم» و«منزل برناردا البا» وغيرها. الذي نهل هو الآخر حتى الارتواء من تراث الغجر الاندلوسيين، الشيء الذي مهد له الطريق للعالمية والشهرة التي طبَّقت الآفاق ومن يدري؟ فلعل ذلك قد يفتح الطريق لعباس عبود للعالمية كما فتحها من قبل للوركا.. فقيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان قيم عالمية لا تعرف الحدود او سمات الدخول. لا أزكي رواية عباس عبود فهي أقدر مني على ذلك، ولكني أقول في خواتيم حديثي يا بشرى هذا كاتب يمتلك في اقتدار تام أدوات صناعته، فافسحوا له المجال فهو أكثر من جدير بتصدر مقاعد الإبداع في هذا البلد.