بعد نحو ثلاثين شهراً من جهد قامت به دولة قطر، تمخض عن توقيع وثيقة سلام دارفور، بداية طريق لطي ملف الحرب فى دارفور، خطوة نأمل أن تبشر بعهد جديد لصنع سلام فى ربوعها. وجاء التوقيع بعد مخاض عسير عبر سلسلة مساعٍ ومبادرات محلية وإقليمية ودولية من الحوار والمفاوضات، انتهت فصولها بتوقيع وثيقة سلام بين حركة التحرير والعدالة بقيادة د. التيجانى سيسى محمد أتيم وحكومة جمهورية السودان فى الرابع عشر من يوليو الجارى بمدينة الدوحة بقطر. وفى حفل التوقيع تليت كلامات تثمن الحدث وتعبر عن تقدير الجهود التى بذلت لتحقيق ذلك. وفى ذات الاتجاه قدم د.التيجانى سيسى خطابا حوى عدداً من المحاور تلخصت فى: اولاً: التأكيد على وحدة السودان من خلال إدارة قضاياه بما يصون ما تبقى من البلاد وضمان وحدتها، والدروس المستفادة من انفصال الجنو ب الذى ستظل تداعياته غائرة فى تاريخ السودان، وضرورة التعامل مع الواقع الجديد على قدر من البصيرة، واستبصار البؤر المحتملة للتوترت وعلاجها قبل وقوعها. ثانياً: إن التذكير بتاريخ دارفور والسلطنات الراسخة عبر قرون ممتدة اتسمت بإنجازات ثقافية وحضارية واختص أهلها بقيم تسامح وتعايش ومكتسبات متفردة، مغزاه إن هذه الخلفية هى مرتكز لفهم الذات وتقديرها ونقطة انطلاق نحو التصالح مع النفس والآخرين شركاء القواسم المشتركة التاريخية والثقافية المصيرية، وعامل يمكن أن يسهم فى إعادة ترتيب الأواصر الأخوية والعلاقات الأزلية. ثالثاً: إن لكل داء دواء، حيث شخص الخطاب تاريخ وأسباب الصراع وتطوراته وآثاره وتعقيداته، وحدد مؤشرات المعالجة متمثلة فى العدل والانصاف، التنمية والإعمار، الأمن والاستقرار، التعايش والتسامح والعفو، احترام الحقوق والقبول بالآخر. رابعاً: إن قضية دارفور ليست حكرا على أحد، وإن الاتفاق الذى تم انجازه عبر التحاور انجاز يستحقه اهل دارفور، وإن توقيع الوثيقة يمهد لاتفاق عام يسع الجميع ليس فيه تخصيص لأحد، هدفه بناء دارفور جديدة تسخر لها كل القدرات والخبرات والهمم، وتؤسس لبناء اجتماعى يتوافق عليه كل أهل دارفور، مشرعة أبوابها لكل الحركات للانضمام إليها. خامساً: كان المنهج التفاوضي للحركة اساسه إشراك كل من يهمهم الأمر من أهل دارفور، نازحين ولاجئين ومجتمع مدنى بمكوناته، وفق حوار وشفافية فى القضايا الجوهرية المتمثلة فى اقتسام الثروة والسلطة، الترتيبات الأمنية، التعويضات للمتضررين والعودة الطوعية، العدالة والمصالحات وحقوق الإنسان، وضمنت حصيلة الحوار فى التفاوض الذى أفضى إلى الوثيقة التى تم التوقيع عليها. ولكى تصبح الوثيقة كائنا يمشي على الأرض وتصير بنودها واقعا تنعم بموجبه دارفور بالنماء والاستقرار والأمان والسلام والرفاء، لا بد من خطوتين، اولاهما مصداقية وشفافية ووفاء الحكومة لأهل دارفور بحقوقهم لتنفيذ ما جاء فى الوثيقة عهداً لا وعداً، وثانيهما عزم اهل دارفور والتفافهم حول اعمارها وتنميتها من خلال تضامنهم وتكاتفهم، وطى صفحة الماضى لاستقبال فجر جديد وسلام قادم بإذن الله. والآن بعد ان لاقت الوثيقة مباركة عربية وإفريقية ودولية واستبشر بها «أهل الوجعة» من نازحين ولاجئين ومجتمع مدنى، فإن هذه المباركة هى بشارة لمرحلة قادمة. مرحلة من أهم سماتها أنها مرحلة تغيير بكل ما تحمله الكلمة من اتجاهات ومعانٍ، مرحلة استنهاض وتنمية، وعزم وعمل، وإعادة صياغة مفاهيم جديدة وتوعية، وتبادل ثقة، وعفو وتسامح وتعايش سلمي، واعتراف بالآخر واحترام حقوقه. وكل هذه العوامل ترتبط بالثقافة ومكوناتها وبراعة التواصل ومهارات الاتصال. ولذلك لا بد أن تتداعى كل مكونات الثقافة الدارفورية عبر آليات الاتصال والإعلام، وهنا لا نتحدث عن النماذج التى تعنى فقط بأخبار المسؤولين وفق نظرية «قام، سافر، تاه، تقدم، وصل»، بل نتحدث عن مشروع ثقافي إعلامي يعنى بعملية التغيير الشاملة التى تحقق إنسانية أهل دارفور، وتعمل على استدامة السلام وبناء المجتمع، وإعادة الثقة بين مكوناته ونشر الوعي والمفاهيم التى تؤمن الاستقرار. وفى هذه المرحلة فإن توظيف الموروثات الثقافية التى تمثل قواسم مشتركة بين أهل دارفور واستغلالها بوصفها مضامين فى عمليات الاتصال، خطوة مهمة وفقاً لنظرية وليبر شرام «الإطار الدلالي» من خلال الإعلام الشعبى «الفنون، الحكامات، قادة الرأي والمعلمين» والإعلام المباشر «المنتديات والندوات وأندية المشاهدة والمسرح المدرسى»، وفى الإعلام الجماهيرى «الإذاعة المحلية والقومية، التلفاز، الصحف، الكتب والمجلات، السينما المتجولة والمسرح» تكرس من خلالها الموروثات الثقافية وتوظيفها فى انهاء التحفز القبلى، وترسيخ قيم التسامح والعفو والرضاء بالآخر، وبناء مجتمع متماسك، ولعل ذات الحكمة الموجودة فى الموروث الثقافي فى دارفور تنجح فى مداواة اوصال المجتمع الدارفورى مما اعتراه، وابلغ ما ينطبق على هذا الاتجاه ما جاء فى المثل الدافورى «شوكاي كان طعناك سلى بدربه». والمرحلة القادمة تستوعب كل الجهود الاستثنائية والمبادرات الخلاَّقة من كل مكونات الوطن الكبير ومكونات اهل دارفور، لإعمار ما دمرته الصراعات من خلال تنمية جادة اقتصادية واجتماعية وتعليمية وصحية وثقافية، وإيلاء عناية خاصة للمرأة أسوة بما أوصى به رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم «استوصوا بالنساء خيراً»، وعلى منظمات المجتمع المدني يقع عبء كبير، وعليها أن تقوده من خلال المبادرات الخلاَّقة والافكار الطموحة والانجازات الفاعلة، لتكون سنداً متيناً للجهود الحكومية والرسمية الوطنية والإقليمية والمحلية، للعبور لبر سلام ونماء تعود فيه دارفور كما عرفت عبر التاريخ.