يقول جيمس مارتن في كتابه (معنى القرن الحادي والعشرين): (القرن الحادي والعشريون هو فترة من الزمان غير طبيعي.. هو قرن التطرف والنهايات.. يمكننا فيه خلق حضارات عظيمة او لنتفادى المصائب والكواردث التي تبدو ماثلة في طريقنا ولايجاد فرص احسن لمستقبل العالم). ان هناك تحولا ثوريا في العالم امامنا، واطفالنا سيلعبون دورا مهما فيه، لذا يجب علينا تعليمهم الاساليب المثلى للتعامل مع هذا المستقبل). وفي اسشتراف للقرن الحادي والعشرين قبل حلوله،، بدا المفكرون والاستراتيجيون في دراسة تطور البشرية في القرون الماضية، وبالاخص الربع الاخير من القرن العشرين حيث شهد العالم طفرات في شتى المجالات تفوق كل ما انتجته الاخير من القرن العشرين حيث شهد العالم طفرات في شتى المجالات تفوق كل ما انتجته وعرفته البشرية في القرون الماضية منذ بداية التاريخ البشري في الارض. وكانت تلكم محاولات جادة لرسم خطط ووضع اهداف يسيطرون بها او يهدفون بها للسيطرة على مسار الامور في هذا القرن الجديد. وانشغلت دول كثيرة باستشراف هذا القرن القادم بوضع استراتيجية لكل منها تستلهم فيها العبر من ماضيها وتقرأ القرن العشرين ببصيرة نافذة وبكثير من التبصر لرسم المستقبل الذي لن يكون سهلا. فقد تطورت العلوم باقسامها المختلفة، واختصرت المسافات وتقاربت الدول، واصبح تأثير سياسات بعضها في بعض كبيرا وعظيما. ونحن في السودان ، وان شابنا في ماضي ايامنا، بعض التقصير في دراسة مآلنا في القرن الحادي والعشرين ، فنرجو ان ندرك ما فاتنا في مقبل ايامنا، ونحن في شكل للدولة جديد، مما يفرض علينا تصورا جديدا، ورؤية جديدة، ورسالة جديدة وقيما جديدة، تهدي الى تعظم دور السودان الجديد في جمهوريته الثانية. بعد انفصال الجنوب، الذي كان تراجيديا اكثر منه عملية سياسية. فقد تعامل الاغلبية من الناس مع هذا الامر بعواطف زائدة ، تأييدا للانفصال او معارضة له، ونال قادة الحركة الشعبية مبتغاهم الذي عملوا له، حربا وسلما، دون رغبة غالب اهل الجنوب، خاصة من عاش منهم في الشمال وعاشر اهله واحتمى في كنفهم سنين طويلة.. بدا السودان بعد الانفصال في جزئه الشمالي كمن يستشرف عهدا جديدا يريد ا ن ينطلق فيه من عقال حرب اقعدته لمدة طويلة، وان بدا في الافق نذر حروب باختلاق توترات جديدة لقيام جنوب جديد في جنوب كردفان، او في جنوب النيل الازرق. ظهرت في وسائل الاعلام، وفي تصريحات بعض السياسيين، مقولة الجمهورية الثانية، دون تحديد مفصل وتعريف مانع لها، فقد تعنى شمال السودان بعد الانفصال، وقد تعني توجها جديدا للبلاد لرؤية جديدة او رسالة محددة للدولة في شكلها الجديد. واياً كان التعريف لهذه الجمهورية الجديدة ولمهامها وشكل حكومتها.. فقد تتطلب استشرافا لمآلات الدولة الجديدة في هذا القرن المعقد وما يفترض لها من القيام به لحكم البلاد. وتعني ان نأمل في غد افضل نبدأ بالتوجه نحوه بتخطيط سليم وتنفيذ اكيد، تاركين وراءنا كل سلبيات الفترة الماضية، التي اعقبت استقلال السودان القديم، وندرس تاريخها ونأخذ العبرة منه.. تواجه الجمهورية الثانية تحولات كبرى في العالم، فالمشكلة الاكثر صعوبة التي تواجهها هي تفوق الانجاز على الصعيد الاقتصادي على نظيره الصعيد السياسي، فعلى الصعيد الاقتصادي انتظم العالم كله في وحدة شاملة من النشاط الاقتصادي والدمج التجاري، بينما على الصعيد السياسي لم يبق العالم مقسما لعدة دول او قوميات ذات سيادة فقط ، وانما تقلصت مساحة وحداته القومية وزاد عددها وغدا الوعي القومي اكثر حدة، وظهرت حركات تطالب بالاستقلال لوحداتها القومية او الجغرافية، او لتحكم نفسها داخل الدولة الواحدة بحكم يعطيها نوعا من الاستقلال من المركز. وهناك التحديات التكنولوجية المتسارعة، والنزوح الداخلي والهجرات من الدول الخارجية، وتناقص مساحات الزراعة بزحف السكن عليها، وتدمير البيئة، وتداخل الثقافات، والغزو الاعلامي الكثيف وما يحمله من آراء وافكار جديدة، ومشاكل الانفاق العام والتنمية المتوازنة وما تثيره من توترات بين المناطق الجغرافية والإثنيات المتعددة، فالتخطيط للجمهورية الثانية يستدعي ادراكا واعيا للمتغيرات العالمية هذه ومدى تأثيرها عليها. وهذه المتغيرات تحدث بسرعة بحيث تسبب قلقا دائما للحكومات والشعوب،مما يفرض علينا التعامل بايجابية مع هذا القلق وتحويله ليكون دافعا لتحرير الناس من بعض الاوهام المتصلة بالقيادات السياسية.. في عالمنا الاسلامي حيث تنتظم ثورات وحركات تحرر شعبية واسعة، تستدعي التحولات السياسية اجراء اصلاحات واسعة في النظم السياسية وفي القوانين والتشريعات وعلاقات العمل والانتاج، وتقسيم الثروة وتوازن التنمية. كم نحتاج لشحذ القوى القومية كافة والبنى التحتية وتغيير كثير من العادات القديمة السالبة التي سادت في علاقات الجمهورية الاولى.. ان التغيير في البنية الهيكلية للدولة في الجمهورية الثانية يستدعي اعادة النظر في رؤية الدولة لما تأمل ان يكون السودان الجديد رائدا ومتميزا فيه، فالرؤية يجب ان تكون واضحة وجلية وتدركها كل مؤسسات الدولة وتبني خططها بناء عليها وتعمل على تحقيقها، فليس اضر بالخطط الاستراتيجية من رؤية غائمة لا تهدي لاستراتيجية قائدة وخطط ممكنة. كم يجب ان يكون هذا رسالة تحدد الاطار الذي تعمل فيه الحكومة ولماذا هي تتولى شؤون الناس وتدير مصالح العباد، بمعنى لماذا اصلا هي الحكومة تحكم الناس. وقد تواجه قيادة الجمهورية الثانية قوى واسعة لا تريد التغيير بل تسعى لأن يبقى كل شيئ كما هو، وتريد تجميد الامور بدلا من الاستجابة للتغييرات الملحة التي تستدعيها فكرة الجمهورية الثانية.. كما على الجمهورية الثانية مواجهة قضايا ملحة تتعلق بنظام الحكم وبالدستور والانتخابات وبناء الاحزاب وتجمعات الرأي. كما عليها ان تكون اكثر جدية في التعامل مع قضية الفقر والقلة التي زادت معدلاتها كثيرا لاعتبارات اقتصادية واجتماعية وبيئية كثيرة، وذلك بإحياء المشاريع الزراعية وخلق اسواق لمنتوجات صغار المنتجين الذين تدخلهم الحكومة في برنامج الاستفادة من التمويل الاصغر. وعلى الحكومة في ظلال الجمهورية الثانية ان تعني بتنمية الكادر البشري بالتعليم والتدريب المستمرين حول النظم والطرائق الحديثة للادارة والعلوم، والقفز به من خانة التواكل والسلبية والجهل الماثلة الآن في قطاعات كبيرة، فقد ضعف المؤهل الاكاديمي وقلت الخبرة المفيدة. كما عليها اصدار اصلاحات حديثة في قوانين الخدمة العامة وعلاقات الانتاج.. تعاني البلاد من ارتفاع نسبة الامية ، فرفع الامية يتطلب خطة اكثر فعالية من الخطة السابقة، تخصص لها الموارد المادية والكادر البشري المؤهل، وتتم المتابعة الدقيقة لمعدلات تناقصها. كما يجب اجراء اصلاحات في التعليم تعيد له ألقه وقوته. كما ترتفع نسبة العطالة، فقد قلت فرص العمل وازداد عدد العاطلين مما يفرض على الحكومة الجديدة وضع خطط لمشروعات حقيقية، تستوعب جيوش العاطلين وتحويل طاقاتهم للانتاج بدلا من ان تكون وقودا لتوتر اجتماعي او سياسي.. ويجب ان تهدف هذه الخطط لزيادة الناتج القومي والى احداث ثورة زراعية - صناعية يتم التخطيط لها بعناية فائقة، مع تفادي التسرع و (الكلفتة) التي اتسمت بها كثير من المشاريع، التي تم اتقانها تماما ولكن دون اولوية مفيدة او جدوى شاملة، فما افادت المرجو منها، فليس اسوأ من بذل الجهد والاتقان لعمل في غير محله.. وكما يعاني السودان الجديد من تناقص موارده الطبيعية بانفصال الجنوب ، فانه يجب الاهتمام الاكبر بكل الموارد الطبيعية، واولها المياه، وايلاء هذه الموارد الطبيعية كافة الأهمية وتعظيمها ووضع خطة ممحكمة للاستفادة منها لاطول فترة ممكنة، والا نتسرع في اهدارها واستخراجها واستهلاكها بدافع هلع انفصال الجنوب وما جره من نقص مورد البترول، والسعي الحثيث لاثبات وجود بدائل لفقد البترول.. تعكس الخدمة المدنية وجه السلطة وهيبتها، واقول دوما بأن موظف الخدمة المدنية يعكس هيبة الدولة اكثر من اية جهة اخرى، لأنه يتعامل مباشرة مع المواطن ويعكس في تعامله هذا سيادة الدولة وقوانينها ونظمها واساليب تعاملها مع مواطنيها وقيم عدالتها ومساواتها بين المواطنين. كما يُمثل هذا الموظف المدني الصورة المثلى للقيم والافكار التي تؤمن بها الحكومة وهو الذي يعطي زمن العمل معناه وقيمته او هدره وضياعه.. يتطلب الامر الآن توجها كبيرا لاصلاح الخدمة المدنية، وتأهيل العاملين فيها، وزرع روح العمل والانتاج في نفوس قياداتها وأفرادها ، وتعظيم قيمة الوقت، وربط كل ذلك بنظام التدرج والترقي الوظيفي.. ان الخدمة المدنية هي بوابة الحكومة للدخول في عصر التكنولوجيا الحالي واللحاق بركب الدول المتقدمة، او على الاقل السير في خطه ورسمها في هذا المجال... اننا نهدف لمستوى معيشي كريم يُهيئ لكثير من الجوانب الاخرى التي تعتبر مهمة في نظر الامم، كالصحة، الجيدة، والتعليم الراقي، ووسائل التمتع بوقت الفراغ فيما يفيد وينفع وهي مكافآت لكل مجتمع ناجح. (ان الاقتصاد الذي يثبت يوما بعد يوم عجزه وفشله عن اللحاق بركب التكنولوجيا الحديثة، ويعاني من معدلات نمو بطيء او سالبة، وبمستويات دخل فردي متدنية، ساكنة او متناقضة ، لأن التغييرات الديمغرافية تقتضي تلبية مطالب اجتماعية جديدة، لهو اقتصاد يعيش حالة سيئة قياسا لاقتصاد يحافظ دوما على قدرته على التنافس والتكيف. ان الاخفاق في اعادة التفكير والتدريب وشحذ المهارات استعدادا للمستقبل، سوف يدفع التاريخ لأن يفوز جيل آخر من الخاسرين).. ان الجمهورية الثانية لا تحمل عصا موسى لحل مشاكل السودان ، ولكن يؤمل ان تكون بداية لعهد جديد من التخطيط الاستراتيجي السليم، نحدد فيه اولوياتنا بعناية تتجاوز اخطاء الخطة الاستراتيجية السابقة، نريد لها بداية موفقة في التعامل مع مشاكل البلاد الكبرى، ومعرفة وتحديد جذور اسبابها ووضع سيناريوهات الحلول، واختيار الحل الامثل والاصوب والاقرب لتحقيق المصلحة العامة. علينا تجهيز عدد كبير من من المتخصصين في حل المسائل، تعليما وتدريبا، ليبدعوا لنا في ابتكار الحلول لكل مشكلة، لقد ورثت الحكومة تركة مثقلة من الديون الخارجية مع توقف كل عون وقرض خارجي مما يستدعي علاجا جادا لهذه المسألة بإجراء مسوحات لإعادة تدوير هذه الديون. ولن يكون هناك نمو إلا باتباع سياسة لتقليص النفقات العامة وتقليص معدلات التضخم وتحويل العجز في الموازنة الى فائض، وهي سياسات تستدعي الدقة في التخطيط والعزيمة التنفيذية في الانجاز والمتابعة والمحاسبة والتقويم. على انه يجب التنبيه الى ان اي انتعاش اقتصادي يتطلب اصلاحات سياسية تقود الى مشاركة واسعة للمواطنين والتفاعل مع سياسات الحكومة. ولقد كان من مثالب البترول انه قلص الحوافز الدافعة للتطوير في مجالات الانتاج الاخرى، وخلق طبقة واسعة من الوسطاء والسماسرة في السوق المحلي، وضعف الاعتماد على مهارات العاملين، وهذا مما يدفع قادة الجمهورية الثانية الى التفكير الجاد في تغيير نمط التفكير الحالي في الانتاج والاستهلاك واستبدال آخر اكثر قيما به. ان التوقعات لزيادة نسبة السكان يستدعي اهتماما اكبر بانتاج الغذاء، وألا تبالغ في تشجيع انتاج المحاصيل النقدية على حساب انتاج محاصيل الغذاء. لقد كانت في الجمهورية الاولى رغبة كبيرة في التحديث والتصنيع.. مدفوعة بما توفر من مال من عائدات البترول، وقاد لإنشاء صناعات ومراكز خدمات متطورة، ولكن لم تصاحب تلك الرغبة خطة استراتيجية محكمة لهذا التحديث، وعانت كثير من البيروقراطية المميتة، ومن افتقارها للخبرة الماهرة والتخطيط غير الواقعي ومن عدم كفاية البنى التحتية، وفوق كل ذلك من ضعف التسويق ومن عدم البحوث والتطوير. ان زيادة الضغط في داخل المجتمع نتيجة لإحساس بالظلم، او لتناقص الموارد، والبطالة والهجرة للمدن ، ونقص التعليم، مما يؤدي لنشوب انفجارات اجتماعية وسياسية. وعلى الجمهورية الثانية ان تكون اكثر حرصا، واسلم رأيا في الحد من فرص هذه الاضرابات السياسية والاجتماعية، والتخلص من كل توتر يهدد سلامة المجتمع وأمنه..