نحن في شمال السودان مازلنا نتعامل مع الإخوة في جنوب السودان وكأننا بلد واحد، وانا من ضمن الذين يكتبون في الصحف كنت أرى أن نعمل جميعا لخلق علاقات حسنة ومتينة بين الدولتين حتى يمكنها الاستقرار والعمل على ترقية بلديهما، وما فتئت أناشد لتطوير أطيب العلاقات مع الإخوة في جنوب السودان، وهذا حال الكثيرين من مثقفي الشمال وبدرجات متفاوتة. الذاكرة تعود بي إلى أيام الاستفتاء، وكيف أننا نحن في الشمال نميل الى وحدة السودان، ولكننا كنا نؤكد دوماً احترام رغبة الجنوبيين، واعتقد أن الطريقة التي أجرى بها الاستفتاء كانت توضح ومن أجهزة الاعلام المختلفة، حرص الإخوة في الجنوب على أن تأتي النتائج بأكبر نسبة مئوية لتوضح أعلى قدر من رغبتهم في الانفصال عن الشمال، علماً بأن هذه الرغبة السلمية الدستورية جاءت بعد خمس سنوات في ظل اتفاقية نيفاشا التي التزم بها اهل الشمال التزاماً كاملاً، وعاش فيها الجنوب في حرية مطلقة يحكم فيها، ولم يتدخل الشمال في اي امر من أموره. ولعلني قد لاحظت أن كثيرا من الوفود الشمالية كانت تذهب للجنوب بغرض التفاكر والتشاور ومد جسور العلاقات، وكان آخرها الرحلة التي قام بها الإمام الصادق المهدي علماً بأن السودان الشمالي لم يستقبل وفودا جنوبية تسعى الى ما يسعى اليه الشمال، وحرياً بنا أن نذكر بأن شمال السودان دولة ذات سيادة، وأصبح جنوب السودان أيضا دولة ذات سيادة، وعليه فإن تبادل الوفود لا يمكن أن يستمر من جانب واحد، لأننا نتوقع من الاخوة في جنوب السودان أن يتعاملوا معنا نفس التعامل على الرغم من انهم ليسوا مخطئين كل الخطأ، لأن هناك بعض العناصر الشمالية لها مصلحة في خلق الاضطرابات، كما ان هناك عناصر أجنبية مازالت تطارد السودان في عروبته واسلامه، ولن تقرَّ لها عين الا اذا احدثت فيه مزيداً من التفرق والتمزق، ولن يتم لها ذلك الا إذا أحدثت حروباً محلية في اماكن متفرقة من السودان، لينضم لها بعض المتآمرين الآخرين في الوقت المناسب. وقد شهدنا هذه الحرب التي تدور في جنوب كردفان التي بكل المقاييس لا توجد لها أسباب منطقية، وإنما اختلق البعض سقوطهم في الانتخابات فاشعلوها حربا تضرر منها كثير من الابرياء والمواطنين، ومازالت نيرانها لم تخمد بعد نتيجة للدعم المتواصل التي تجده من بعض القوى في الجنوب. ومازال الجيش السوداني يقف بكل بسالة وشرف لاخماد هذه الحرب دون المساس بالابرياء، وهي اخلاق عسكرية حميدة، ولا بد أن تأتي أوكلها في القريب العاجل بدحر قوى البغي والعدوان. وفي الوقت الذي يجاهد فيه الجميع لإنهاء هذه الحالة الشاذة في جنوب كردفان، قام والي النيل الازرق مالك عقار بتأمر، والذين يعلمون طبيعة المنطقة يقولون إن الذي يدور في المنطقة أكبر بكثير من الذي يدور في جنوب كردفان، وكما عودنا الجيش السوداني فقد احتوى هذا التمرد المرسوم، واستطاع أن يسيطر على الأمور، كما ان جهود القوات المسلحة مازالت جارية لتمشيط هذه المنطقة وكنسها. ولا بد لي وانا العليم بهذه المنطقة واهميتها واستراتيجيتها، لا بد لي ان انبه إلى ان اللعب بالنار في جنوب النيل الازرق قد يؤدي الى حرائق يصعب اطفاؤها، وعليه فإني أرجو أن تتمكن القوات المسلحة وكما عودتنا من حراسة هذه المنطقة حراسة تامة، مع الوعي الشديد بكل ما يخطط او يبرمج لها، كما أنها موقع اقتصادي استراتيجي يمد السودان الشمالي بكثير من احتياجاته من الذرة وعباد الشمس. ولا بد للإخوة في حكومة جنوب السودان من التحرك السريع لصون العلاقات بين البلدين، وعدم اتاحة الفرصة لبعض المتلاعبين من الأحزاب العقائدية الصغيرة في الشمال مع رصفائهم في نفس الدرب في الجنوب، لإحداث قلاقل في الشمال لاسباب عقائدية ايضاً. العلاقات بين الشمال والجنوب مرت بأزمات كثيرة أكثر تشعباً وأكثر صعوبة، وذلك عام 5591م حينما تمردت قوة في الوحدة الجنوبية بمدينة توريت وابادت كل الشماليين الموجودين في الاستوائية اولاً، وليس فيهم عسكري واحد، وانما كانوا مجموعات من المعلمين والاطباء وذوي المهن المدنية الاخرى والتجار والمدرسين ثانوي عالي ومتوسط والممرضين، كما انهم طالوا مديرية بحر الغزال فقتلوا ما قتلوا من الابرياء والمدنيين، ونكلوا بجثثهم، هذا في الوقت الذي كان يعيش فيه بين ظهرانينا كثير من الاخوة الجنوبيين، وانا كشاهد عصر فإنه لم يتحرك مواطن واحد في شمال السودان للاعتداء على الجنوبيين او مطالباً بالثأر، علماً بأن قرية ام دوم التي تقع بالقرب من الجريف شرق فقدت «84» تاجراً ابيدوا عن آخرهم. انا اذكر هذا لاوضح للإخوة الجنوبيين اننا حينما كنا نعيش في بلد واحد كنا نتجاوز عن الاخطاء حتى ولو بهذا الحجم الذي ذكرت. ولكننا اليوم في دولتين منفصلتين، فلا بد أن تكون الحمية الوطنية والقومية قد اخذت تنمو في قلوبنا، الأمر الذي سوف لن يمكننا من التعامل مع الاحداث كما تعاملنا معها في الماضي، كما أنني اذكر التنظيمات السياسية في الجنوب والتنظيمات السياسية في الشمال، بأنه إن كان هناك تواصل سياسي بين الشعبين فإني اصر على ان يكون هذا التواصل بطريقة ندية ومتكافئة. ان الذين يهمهم امر وامن المنطقة عليهم أن يتعاملوا مع الجميع بطريقة حيادية، أما اذا حاولوا انتهاج الاسلوب القديم لخلق القصص المفبركة حول انتهاك حقوق الإنسان او الرق في السودان، فنقول لهم هذا الأسلوب اصبح مكشوفا لدى الجميع، ولا احد ينطلي عليه او يصدق، لأن الحكومة الموجودة حالياً وانا لست من انصار حزبها، قد وعيت كثيرا من الدروس واخذت ترشد في سلوكياتها وادائها، واعتقد أن رواسب الماضي مازالت تعشعش في رؤوس بعض اعضاء جهاز المخابرات الاميركية الذين جبلوا على فبركة مثل هذه الأمور، ولا يستطيعون الآن ان يمرروها علينا لسبب، هو ان الرجل الذي يسكن البيت الابيض الآن ويتولى ادارة شؤون اميركا الآن هو باراك اوباما وليس جورج بوش المخبول الذي اعمته الحاجة عن التعرف الصحيح على مبادئ الحكم، وكانت أميركا في عهده قد وصلت إلى درجة من سوء السمعة أفقدها كل شعوب العالم، وأدخلها في كثير من الحروب والمنازعات التي تثقل كاهل أوباما الآن. ونصيحتي لأخي الرئيس البشير أن يعمل جاهداً لاحتواء هذا الموقف، وكانت لفتته بارعة ووطنية ان دعا كل القوى السياسية لاطلاعهم على الموقف، وسعدت أن أسمع بعض الآراء الواعدة الداعمة للتوجه السوداني الى صون وحدة اراضيه ودينه وعرقه، كما أنني أسفت للبيان الذي اصدره الحزب الشيوعي السوداني، وللتصريحات التي صدرت من احد كبار قادته يهاجم فيها الحكومة، ولم يتكلم عن طبيعة الحدث الذي وقع، ناسياً أننا اليوم في محنة تتطلب تماسكنا جميعاً من أجل السودان. ونحن الآن لسنا بصدد إثبات هويتنا الحزبية او تقويتها او اطاحة الحكومة، وستكون كل هذه حركات انصرافية تدعو الى التفريط في مصالح السودان، كما أننا نرجو أن نخاطب الإخوة في دارفور بأن يلتزموا ما تم في عاصمة قطر الدوحة.. وان يعضوا على السلام بالنواجذ، لأن سنين كثيرة قد ضاعت من عمر دارفور العظيمة بسبب انقطاع بعض المسؤولين عن هذه الحوادث عن دارفور، وركون بعضهم إلى حياة الفنادق. كما أن لي كلمة خاصة أوجهها للابن عرمان الذي تقمص شخصية أحد الإخوة الشيوعيين الذي يحاول جاهداً جر كل السودان الى حزبه عندما تختلط الامور في السودان، ولحسن الحظ فإن مخططاته جميعاً قد تيقظت لها القوى الوطنية في حينها. كلمة أخيرة أوجهها للقائد العام للجيش السوداني وزملائه الأبرار، بأننا نرقب كل ما يقومون به خالصاً لوجه السودان، ونرجو لهم مزيداً من التقدم والانتصارات من أجل السودان. الإعلام العربي في ماضيه وحاضره: لا أظن أن أحداً تتبع ما يدور في الإعلام العربي بقدر تتبعي له الآن، وكيف ان الاعلام العربي اخذ يتجه اتجاهات خطيرة في ظنه بمقدرته على توجيه الرأي العام، وان استطاع ان يعتقد مؤقتا بأنه نجح في ذلك، إلا انني أرجع واقول للمسؤولين عن هذا الاعلام إن الحالة الفوضوية التي تسود اليمن الآن وسوريا والبحرين هي بفعل هذا الاعلام، لأن بتتبعي رأيت ان معظم الاسئلة التي تصدر من المذيعين او مقدمي البرامج هي أسئلة ايحائية او اسئلة توجيهية او تحريضية، ونحن اعتدنا من بعض وسائل الإعلام التي نثق في أخبارها وسلوكياتها، عدم انغماسها في هذا الجو الذي يقلل من مكانتها الرفيعة عند العرب. وأذكّر هؤلاء الشباب المسؤولين عن الإعلام الآن بحكم سني، أذكرهم بإذاعة صوت العرب التي كانت تذيع الخطب الحماسية الرنانة التي كان يشرف عليها النظام المصري بقيادة عبد الناصر، فتوقف صوت العرب وتبخرت طموحاته وآماله التي كان يبثها ويبشر بها. ولم تتحرر فلسطين ولم تسقط الانظمة العربية التي كان يهاجمها، ولم نر إسرائيل وهي ترمى في عرض البحر. إنني أرجو من الإخوة في الإعلام العربي نقل الأخبار بطريقة هادئة ليست فيها إثارة ولا تحريض، لأن هذا من شأنه أن يحدث التغيير المنشود، لا تغيير «صوت العرب» الذي ذكرت. كلمة لا بد منها: أرجو أن أُذكّر الجميع خاصة الذين يعملون في السياسة الدولية، بأننا نحن في السودان لا نخشى أحداً غير الله، ونحارب كل من يحاول أن يفرض نفسه وصيَّاً علينا. والله الموفق.