عادت أزمة مياه النيل إلى واجهة الأحداث من جديد بعد طوال غياب بيد أنها أطلت هذه المرة بلاعبين جدد في تيار المصالح المشتركة ولم يكن مألوفاً في السابق ارتباط الدول العربية بتقاطعات وخلافات دول حوض النيل وظلت تنأى بنفسها عن مشاكل البيت الأفريقي تاركة «مصر والسودان» دولتا المعبر والمصب في مياه النيل تواجهان تيار دول المنبع التي تسعى إلى إنهاء الاتفاقات القديمة وإعادة توزيع حصص المياه على أساس جديد ضاربة بالمكتسبات التاريخية لمصر والسودان عرض الحائط، حيث فتح مشروع القرن «سد الألفية» الأثيوبي أبواب الخلافات الموصدة لفترة طويلة بين دول حوض النيل وأدى إلى تصاعد الخلافات حول إعادة تقسيم المياه من جديد، على إثرها طفت الخلافات على سطح «المياه» العكرة بعد شد وجذب وتفاهمات واتفاقيات أولية لم تتوج بتوقيعات، وظل الملف عالقاً ومستعصياً على الحلول نتيجة لتقاطع المصالح والمكتسبات بجانب عبث أيادٍ خارجية تحاول تحريك خيوط اللعبة وفقاً لمصالحها الخاصة. وفي آخر تطورات ملف حوض النيل رفض وزير المياه والطاقة الأثيوبي، اليمايهو تيجنو، اتهامات المملكة العربية السعودية اللاعب الجديد في مياه النيل بأن سد الألفية سيحدث أضراراً بالسودان ومصر، وشدد على أن بلاده ليست لديها أية نية للإضرار بدولتي المصب بحوض النيل من خلال استخدامها لمياه النهر. وجاءت تصريحات وزير المياه والطاقة الأثيوبي رداً على كلمة نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلطان أمام اجتماع المجلس العربي للمياه بالقاهرة قبل أيام، وقال وزير الدفاع السعودي إن سد الألفية تصل طاقته الاستيعابية من مياه الفيضان إلى أكثر من 70 مليار متر مكعب ويقع على ارتفاع 700 متر، وإذا تعرض للانهيار فإن الخرطوم ستغرق تماماً بل سيمتد هذا الأثر حتى السد العالي في مصر، وقال الوزير تيجنو في تصريحات لصحيفة «إثيوبيان هيرالد» ان «دول أعالي النيل لديها الحق في استخدام مياه النيل بدون التسبب في أية أضرار لدول المصب، وأوضح أن تصريحات الأمير لا أساس لها من الصحة على الإطلاق»، وأكد أن الدراسات السابقة في هذا الصدد أكدت أن سد النهضة الأثيوبي ليس له تأثير سلبي على مصر والسودان وأن لجنة الخبراء الدوليين تتولى بالفعل مراجعة مشروع السد»، موضحاً أن «أثيوبيا تقوم ببناء السد وفق معايير جودة عالمية وهو ما يجعل تصريحات الأمير خالد بشأن الانهيار المحتمل لهذا السد غير مهنية»، بحسب رأيه. اللافت في الأمر إن دول حوض النيل تمر الآن بظروف وتغيرات عديدة جعلتها منقسمة بين مطالبة بإلغاء الاتفاقيات القديمة الاستعمارية الموروثة وهي « أثيوبيا، يوغندا، كينيا، رواندا، بورندي، الكنقو الديموقراطية، تنزانيا» وجميعها دول منابع، بجانب دول متمسكة بالحقوق المكتسبة من الاتفاقيات القديمة وهي «مصر والسودان» إضافة إلى دولة غير منضوية حتى الآن في مجموعة دول حوض النيل «اريتريا» ووجودها بصفة مراقب ليس إلا باعتبارها دولة وليدة كانت جزءً من أثيوبيا قبل أن تنفصل عنها، وانضمت إليها دولة جنوب السودان أيضاً بعد انفصالها من السودان والتي لم تدخل صراع المياه حتى الآن وإن كان عدد من المراقبين يرجحون انضمامها وانحيازها لدول المنبع. الدكتور احمد المفتى الخبير في قضايا مياه النيل يرى ان الإشكاليات الحقيقية تتعدى مسألة انهيار سد النهضة الأثيوبي وقال ل «الصحافة» ان مسألة انهيار السد واحده من الموضوعات التي يجب أخذها في الاعتبار، بيد ان أكثرها أهمية مسألة التحكم في مياه النيل لسنة كاملة وكمية المياه المتدفقة منه إلى مصر والسودان ما يدخل القضية في ملفات أخرى، على شاكلة ماحدث بين تركيا مع سوريا والعراق من الناحية السياسية في مسألة المياه، وشدد المفتي على ان القضية في غاية الخطورة ويجب التصدي لها في اعلى مستويات الدولة الدبلوماسية والأمنية والسياسية وكل جهات الاختصاص باعتبار ان المياه مسألة حياة او موت، وقال من غير المنطقي ترك الأمر للجنة الفنية في وزارة الري لتواجه هذه القضية الكبيرة التى تتطلب إعادة نظر كاملة وتنسيق كامل لمصر والسودان في اعلى المستويات وفي إطار الإستراتيجية العربية للأمن المائي والغذائي، وأشار الى ان تتدخل المملكة العربية والسعودية والدول العربية في هذا الملف يرتبط بالأمن الغذائي لهذه الدول التي تعتمد على مصر والسودان بإمتلاك الأرض الصالحة والمياه، وذكر المفتي ان الأمر قابل للحل وذلك بالتنسيق المحكم بين مصر والسودان واثيوبيا في هذا المشروع ودخول مصر والسودان شركاء فيه لضمان انسياب المياه وتفعيل المصالح المشتركة، وفق ما يعرف بالملكية او الإدارة المشتركة للسد. وتنبع الإشكالية الكبرى في أزمة مياه النيل أن اتفاقيات مياه الأنهار الدولية بصوره عامه تتمثل في ان القانون الدولي لم يوفر اساساً قانونياً واضحاً يتيح للأطراف المتنازعة فرصة الإحتكام الى مبادئه، ومن جهه اخرى تتصاعد ازمة المياه في العالم المعاصر في الوقت الذي لا يخضع فيه حوض نهر النيل لاتفاقية شاملة لتقسيم المياه، والقاعدة الأساسية في القانون الدولي بحسب الخبيرة في قضايا حوض النيل اكرام محمد صالح انها ترجع لمبدأ «العقد شريعة المتعاقدين» اي الثبات، ولكن هناك جانباً متغيراً ومتطوراً في الحياة عامه بكل نظمها الطبيعية والبشرية والنظام القانوني فيها، وقالت اكرام ل «الصحافة» إن الاحتياجات المتفاوتة لدول الحوض تضاعفت نتيجة للنمو المتسارع للسكان خاصة في دول حوض النيل ما أفرز احتياجات متفاوتة للمياه ، لتأمين الغذاء والاستهلاك المنزلي، وتوليد الطاقة الكهرومائية وغيرها من الاستخدامات المتعددة للمياه حيث انعقدت الكثير من المؤتمرات والندوات، للمطالبة بتغير الاتفاقيات القديمة واعتماد صيغ جديدة للتواكب المرحلة، بإعتبار ان مبادرة حوض النيل في عام 1999 تمثل الآلية الحالية التي تجمع كل دول الحوض تحت مظلة واحدة تقوم على مبدأين اساسيين وهما تحقيق المنفعة للجميع وعدم الضرر، الا انها قالت ان هذه الآلية مؤقتة ولا تستند الى معاهدة أو اتفاقية دائمة او شاملة تضم دول الحوض جميعاً، ولذلك برزت الحاجة الى ضرورة قيام إطار قانوني مؤسسي بحيث يكون بمثابة دستور ملزم تحترمه جميع الدول، وقد عبر المجتمع الدولي عن تأييده القوي لأهداف المبادرة، واوضحت ان الجهود تواصلت بتبني مشروع (دي3) وهو مشروع لإنشاء إطار لترتيبات قانونية ومؤسسية مقبولة لكل دول الحوض، وعلى هذا الأساس شكلت لجنة خبراء مثلت فيها كل الدول بفريق مكون من ثلاثة اشخاص من ذوي التخصصات القانونية والموارد المائية، إلا ان خلافاً نشب بين الخبراء حول الإتفاقيات الراهنة، وانه لايمس الإطار القانوني الجديد الإتفاقيات السابقة وتبنى الموقف مصر والسودان، والآخرون من دول الحوض شددوا على ضرورة توزيع المياه بصورة عادلة بما يعني إعادة النظر في الإتفاقيات القديمة ، الى ان تصاعدت الأزمة في مؤتمر كيجالي بالعاصمة الرواندية في العام 2007 في الإجتماع الوزاري، حيث تراجعت جميع دول الحوض عن مواقفها السابقة بالنسبة للنص الذي يؤكد على أهمية الأمن الغذائي لكل دول الحوض، كما تراجعت جميع الدول عن النص الذي يلزم الجميع بالإخطار المسبق عن المشروعات التي تقام على نهر النيل وفروعه بسبب تشدد الموقف الأثيوبي. وتجدر الاشارة إلى ان الخلاف الأخير تمثل في الطرح الذي قدمته كل من مصر والسودان كمسودة لإتفاق ينص على، مطالبة مصر بزيادة حصتها (11) مليار ملمْ لتكون نسبة إعتمادات حصتها من المياه (66) مليار ملمْ، اضافة الى إخطار مصر مسبقاً قبل تنفيذ اي مشروعات على النيل، وإستمرار العمل بالإتفاقيات السابقة التي توزع الحصص المائية بإعتبارها حقوقاً طبيعية، وفي حالة تكوين مفوضية دول حوض النيل تكون القرارات بالتصويت ويشترط فيها موافقة السودان.