عقب الانتقادات الكثيفة التي تعرض لها الحزب الشيوعي من كبار المسؤولين في الحكومة، اعتبر كثير من المراقبين للحياة السياسية أن تلك الانتقادات ما هي إلا مقدمات لخطوة قادمة، وربما تكون حاسمة في مواجهة الحزب الكبير. ففي الوقت الذي اتفق فيه المراقبون على ذلك إلا أنهم انقسموا حيال تقييم الموقف الجديد للحزب الشيوعي، بعضهم يرى أن التساؤلات المطروحة في مواجهة الحزب مشروعة، باعتبار أن الحزب ظل لفترة تاريخية كبيرة يتخذ موقفاً منعزلاً عن أي عملية سياسية توافقية تنتجها الأحزاب، ويعتبرون أن المفاصلة التي يتمترس خلفها ما هي إلا محاولة لإخفاء حالة الضعف التي انتابته نتيجة للصراع الفكري والقيادي الذي ضرب صفوفه مؤخراً، وأدى لاستخدام منهج "الطرد" لأهم قياداته. ويشيرون إلى أن واقع العمل التنظيمي ومشكلاته والانقسام حول قيادة الحزب يجعل من الشيوعي غير قادر على العمل السياسي وأنه ربما يخطط للعودة إلى العمل "السري" ولكن عبر تصدير المشكلات للحكومة واستفزازها برفض المشاركة في الحوار وزيادة التنسيق والاتصال السياسي بين الحزب والفصائل المسلحة وتعبئة قواعدها للتظاهرات وأخيراً محاولات تبنيه الدعوة للعصيان المدني لإسقاط الحكومة. وجهة نظر أخرى: فريق آخر من المراقبين يرون أن الحزب الشيوعي يعيش أفضل حالات تماسكه السياسي والتنظيمي افتقدهما منذ سنوات طويلة، ويستدلون على ذلك بانعقاد مؤتمره العام السادس في مناخ طبيعي منتخباً لجنته المركزية، بالإضافة إلى تحديده لموقفه المشروط من المشاركة في الحوار الوطني. ويذهبون إلى أن الشيوعي مثله وأحزاب المعارضة الأخرى التي افتقدت المناخ السياسي العادي لتطوير بنيتها الفكرية والتنظيمية ويعتقدون أن حملات "الكر والفر" التي تبادلها الشيوعي مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم أثرت كثيراً في تطوير خطابه السياسي كما أن قياداته ظلت أسيرة تجارب المعتقلات القاسية التي رسخت في دواخلها مفاصلة شعورية جعلتها تنتهج خطاباً صادماً يرفض أي تقارب سياسي مع الحكومة أو حزبها الحاكم حتى وإن كان حول القضايا الوطنية. تساؤلات مشروعة: المشهد بزخمه والجدل في قمته يتصاعد مع جملة من الاستفهامات التي توصف بالمشروعة في مواجهة الحزب العتيق، فما الذي يريده الشيوعي المتمترس في مواقفه الرافضة للتعاطي مع أي عملية سياسية يكون طابعها السلمية ومنتهاها الاستقرار. وهل تعد مواقفه موضوعية ؟! وهل حقيقة يعاني الحزب من مشكلات داخلية فكرية وأزمة قيادية أقعدت به وجعلته منغلقاً على نفسه منبتاً عن الواقع السياسي مفضلاً العودة إلى المخابئ؟ مزاعم وافتراءات: الحزب الشيوعي لم يتخذ موقفاً دفاعياً وبدوره قام بالرد على بعض تلك الاستفهامات، واعتبر أن ما يدور حوله كحزب ونشاطه السياسي به كثير من الافتراضات غير الصحيحة، ويؤكد الشيوعي أنه تواضع مع الحكومة على "دستور السودان وقانون الأحزاب" رافضاً في الوقت ذاته إخلاء الملعب للمؤتمر الوطني، وينفي القيادي البارز في الحزب يوسف حسين في تعليقه ل(السوداني) أي اتجاه لعودة الحزب للعمل "السري" وقال :" لا عودة للعمل السري، ذلك ليست من خياراتنا " وقال إن دستور البلاد للعام (2005) كفل للناس حرية النشاط السياسي إلى جانب قانون مجلس الأحزاب والتنظيمات السياسية للعام (2009) الذي كفل للأحزاب السياسية ممارسة نشاطها داخل وخارج دورها لكن حسين يرى أن حزبه غير قادر على ممارسة عمله بموجب تلك القوانين السارية في البلاد، واستمثل بتصريح لوزير الإعلام والمتحدث الرسمي باسم الحكومة د. أحمد بلال –في أكتوبر الماضي- ذكر فيه (ليس هناك نشاط مسموح به ضد الحكومة). تصنيف وصراع مستمر: تحت دعاوى ظهور ما يسمى بالتيار اليميني الذي يسعى لتصفية الحزب، باستبدال خطابه الفكري وخطه السياسي للحوار مع الحكومة، قام المحافظون داخل الحزب الشيوعي، بفصل وإبعاد أبرز قياداته السياسية، بعد معارك كبيرة، استمرت حتى المؤتمر العام السادس للحزب، الذي أكد تمسكه بالماركسية ورفضه الدخول فيما أسماه التسوية السياسية التي تعدها القوى الإمبريالية بقيادة الولاياتالمتحدة والمسماة "بالهبوط الناعم" وهي خلاصات تترجم ما ذهبت إليه مقالات وآراء سابقة لعدد من كوادر الحزب أشاروا فيها باكراً إلى أن هناك تياراً يمينياً تصفوياً يهدف إلى التخلي عن الماركسية وتغيير اسم الحزب والحوار مع الحكومة. ولكن ثمة حقيقة ماثلة تؤكد أن الصراع الفكري الذي انتهى بتصفية الحسابات السياسية وأدت لفصل القيادي البارز الشفيع خضر وآخرين، هو صراع له جذور وتيارات سابقة حتى لخط الحوار مع الحكومة، وطبقاً لما أوردته دورية "الشيوعي" الإصدارة الداخلية للجنة المركزية - تحصلت على نسخة منها (السوداني)- فإن الصراع خارج القنوات في العمل القيادي أثر تأثيراً كبيراً على عمل الحزب وأغرق قياداته في اجتماعات مطولة وتحقيقات حول القضايا الخلافية التي تعلقت "بالتكتل والثرثرة" وأرجعت جذور وجود هذا التيار إلى عام 1991 عندما قدم –الراحل- الخاتم عدلان ورقته التي نشرت في مجلة "الشيوعي العدد 157" وطرح فيها التخلي عن الماركسية والطبيعة الطبقية للحزب وحل الحزب الشيوعي وتكوين حزب جديد باسم جديد، إضافة إلى ذلك تطرق العدد الخاص من مجلة "الشيوعي" إلى الخلل في العمل القيادي الذي كان من نتائجه تصعيد الخاتم ووراق إلى سكرتارية اللجنة المركزية من خلف ظهر اللجنة المركزية" وتعطيل اجتماعات اللجنة المركزية لمدة ست سنوات ... و أن هذا التيار لم ينته بانشقاق الخاتم ووراق وتكوينهما حركة" حق" ولكن بقيت له ذيول وأفكار استمرت داخل الحزب الشيوعي التي لم تتخذ شكل الصراع الفكري داخل الحزب ولكنها اتخذت شكل التكتل والفوضى والتخريب. المؤتمر السادس.. مناقشات قبلية: المؤتمر السادس للحزب انتهى حينما تأهب الرأي العام لمتابعة بداياته، ولكن الحزب الشيوعي أعلن انتهاء مؤتمره بختام ظنه الحاضرون أنه مبتدأ المؤتمر، معلناً انتصار المحافظين أو التيار الماركسي السلفي الرافض لأي تغيير في أطروحات الحزب وأيديولوجيته الفكرية، ليكسب التيار الجولة ملحقاً بمخالفيه الحزبيين هزيمة تنظيمية ماحقة كانت تحت عنوان الفصل والتشهير.. بيد أن ثمة أحداث مهمة دارت قبل وأثناء المؤتمر أبرزها الانتقادات الشديدة التي صوبت لضعف العمل القيادي، بحسب ما ذكرت دورية الشيوعي، وأنه تفاقم لدرجة لم يستطع فيها الحزب الشيوعي البناء وسط الطبقة العاملة نتيجة للفهم "غير العلمي" الذي ظلت تتمسك به قيادة الحزب بأن المنتمين إليه من غير "العمال" وأن كل من اقتنع بالماركسية فكراً والتحق بالحزب الشيوعي وانحاز للطبقة العاملة فكرياً قد غير أصله الطبقي، ويشير ذات العدد إلى أن هذا الضعف القيادي للحزب امتد لعجز آخر تمثل في إهمال بناء الجبهة"النقابية" ويبدو أن هذه الانتقادات هي امتداد لوثيقة الحزب (الماركسية وقضايا الثورة السودانية) التي ذكرت أن سنوات الحكم العسكري فضحت تخلف الحزب الشيوعي من ناحية الأداء والتنفيذ. لكن القيادي البارز في الحزب الشيوعي يوسف حسين تساءل في رده على (السوداني) عن علاقة صراعات الحزب بممارسة النشاط السياسي ، وأضاف:" غض النظر عما يدور بداخل الحزب إلا أن ذلك لا يمنع حقه في ممارسة عمله السياسي، وإذا كانت هناك أشياء داخل الحزب فهذا من اختصاص مجلس الأحزاب وليس أي جهة أخرى).