في تسعينات القرن الماضي كتبت في مقال لي عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد (أغلى من لؤلؤة بضة صيدت من شط البحرين) ونسبت القصيدة التي قيلت فيها لغير شاعرها فكتب لي طبيب يعمل بمستشفى حلفا مصوبا وقائلا إن شاعر الأغنية هو الدكتور ابراهيم العريفي وهو من البحرين ولكن الذي لفت نظري في الرسالة أمران أولهما أن أسلوب التصويب كان في غاية التهذيب كأنما كان هو المخطئ وأنا المصوب والأمر الثاني هو أن صاحب الرسالة بعد أن وقع اسمه (د. كمال حنفي) كتب تحته تذكر هذا الاسم جيدا فقد نلتقي ذات يوم. وقد كان, فما هي إلا سنوات قليلة إلا وكنا متجاورين في أخيرة الرأي العام الغراء وقد اتضح لي قبل أن نلتقي أنه كان يمارس الصحافة من منازلهم أو بالأحرى من عياداتهم وفي عدة صحف منها ألوان والشاهد الدولي وهذه الأخيرة هي التي أظهرته ككاتب يومي راتب. لقد شق علي نعي الدكتور لرحيله المفاجئ والذي كان من غير وداع وزاد حزني لأنني قد شاهدته قبل أيام قليلة وهو يعلق من خلال شاشة الشروق على زيارة البشير لجوبا وكان كعادته مهتما جدا بالمفردات غير النمطية لتوصيل رأيه غير النمطي وقبلها بأيام شاهدته على التلفزيون القومي وفي جلسة طويلة وفي عشية زيارة مرسي للسودان يتحدث عن العلاقات المصرية / السودانية ناظرا لها من زوايا غير تقليدية وهو من السودانيين الذين يهيمون بحب مصر لا لأنه من أبناء حلفا القديمة / الجديدة ولا لأنه درس الطب هناك بل لأن مزاجه عروبي شرق أوسطي فحبه لمصر كجزء من ذلك الكل. في المرتين اللتين شاهدته فيهما فكرت في تناول الجوال ومشاغلته بطلعته ومقالته البهيتين ولكن شاغل ما صرفني عن ذلك ولذلك وجدت نفسي الآن في غاية الندم لأنني انصرفت عما هممت به فضاعت عني فرصة لن يتم تداركها الى يوم الدين. شق على نعي كمال حنفي لأنني مثل غيري افتقدت كاتبا نادرا. كاتبا حدد أسلوبه في الكتابة وبصرامة شديدة ومقاييس هندسية غير عادية لدرجة عدد الكلمات في كل عموده محدد تحديدا قاطعا واستطاع بمهارة فائقة أن يطوع المادة أياً كانت على أسلوبه. كمال حنفي من الذين يرون أن الكتابة أسلوب وأن التميز ليس في تناول المواضيع فالمواضيع هي هي وعلى قفا من يشيل ولكن الإبداع في الأسلوب ولا شك أن كل الذين يقرأون له أصبحوا أسيرين لأسلوبه الساحر الأخاذ. شق علي نعي كمال حنفي الصديق الرقيق الإنسان فهو دوما مهموم بعلاقاته الإنسانية والاجتماعية فما أن يسمع بفرح أو كره لأحد معارفه إلا وتجده حاضرا لا يعرف الاعتذار ولا يعرف الاكتفاء بالموبايل. يحترم الصغير والكبير ليس في قاموسه اللغوي كتابة وتحدثا مفردة نابية او حتى خشنة حتى ولو انتقد شخصا او موقفا في كتاباته فإنه يتحاشى اللغة للوصول لهدفه إنما يكتفي بالمعنى لا بل يصل أحيانا أن يرقّص الألفاظ وهي تبكي. قلت له ذات مرة ياكمال إنني أجد في أسلوبك وكلماتك مهندسا وأحيانا أجد أديبا أريبا ولكنني يندر أن أجد طبيبا فقال لي أبشرك أنني بعد قدومي من ماليزيا بتخصص في طب المجتمع طبقت السماعة وقلت لهم (خذوا دنياكم هذه فدنياواتنا كثر) رحمك الله كمال وأنزل شآبيب رحمته على قبرك الطاهر وألهمنا وأسرتك الصبر الجميل في فقدك.