في عدد السبت الماضي قرأت مادة للصديق ضياء الدين بلال بعنوان (حذاء غندور). وقد بدا لي كمستهلك، وناقد مستديم، للمنتجات الصحفية أن ضياء كان بوسعه أن يستفيد في صناعة عنوان مادته من الرواية التراثية الشهيرة (حذاء الطنبوري)، بيد أنه لم يفعل. ولكن لا بأس، فأنا موجود! تناول صاحبي قصة الذائعة التي غطت سماء الأسافير مؤخراً، وفحواها أن صهري، البروفيسور إبراهيم غندور، ذهب خطيباً إلى لقاء جماهيري بأحد أحياء العاصمة، الأسبوع الماضي، ولكن الجماهير ثارت في وجهه، وهجمت عليه هجمة رجل واحد، وكادت تأكله بأسنانها. فاضطر الرجل إلى الهروب زحفاً على بطنه من تحت الصيوان. وفي غضون ذلك انمَلَص حذاؤه من تحت قدمه، فتركه من ورائه، وفرَّ بجلده ركضاً أمام الجماهير المهتاجة. تواترت بعد ذلك في عدد من مواقع الشبكة الدولية صور فيديو وأخرى فوتوغرافية لحذاء أبيض، قيل أنه الحذاء الذي تركه من خلفه القيادي الإنقاذوي الهارب. وانفتح باب النضال بعد ذلك على مصراعيه، فما من مناضل إلا و(ردح) في قضية الحذاء، وأغدق على صاحبه المفترض من الشتائم من شاكلة (الجبان) و(الرعديد) مؤونة عام كامل. وإن كان بعضهم قد حاول الاستثمار في الحادثة بصورة إيجابيه تنمُّ عن وعيٍّ وطنيٍ أصيل، إذ دعوا مساعد الرئيس، الذي ظهرت موهبته في الجري، لتمثيل السودان في ماراثون الألعاب الأولمبية للركض في ريو دي جانيرو العام القادم 2016. وبطبيعة الحال فإنه أصبح في علم الكافة ضحى يومنا هذا أن الرواية بكاملها مختلقة، ولم يكن لها من وجه الحقيقة نصيب. فلا غندور شارك في ندوة بذلك الحي، ولا حتى كان موجوداً في مدينة الخرطوم نفسها أمسية الحادثة المزعومة. كنت في مقال سابق قد وصفت الشبكة العنكبوتية بأنها نعمة، تماماً كما أنها نقمة. بل لعلها نقمة في جوفها نعمة، والله أعلم. وقد نُسب إلى الإمام المهدي، عليه السلام، قوله: (النِعَم في طي النِقم والمزايا في طي البلايا). وعلى حساب التكرار نقول أن الإنترنت مجرد أداة في يد صاحبها، قد يستخدمها فيُحسن، وقد يستخدمها فيسيء. قطاعات عريضة من كادرات المعارضة، في الداخل والخارج، لحقت بها عبر السنوات أضرار فادحة من جراء تفاحش ظاهرات الاستخدام المسيء للشبكة الدولية، الذي يرتد وبالاً على المعارضة وقضيتها، فلا يزيدها إلا خبالا. ولا شك عندي أن أهل النهي من المعارضين الحقيقيقين يدركون، حق الإدراك، مدى وحجم الأزمة التي يعانيها معسكرهم من جراء تلك الابتلاءات. أنا لي اجتهادي الخاص حول تصنيف وتحليل هذه الظواهر وردها إلى مواردها. قناعتي الكاملة بعد عشرين عاماً من الحياة المهجرية أن من يتصدرون شغل الذائعات الملفقة، تأليفاً ونشراً وترويجاً، ويتخذونها أداة للنضال، هم صنف معين بذاته من سودانة المهاجر. ينهضون دوماً إلى صناعتهم التي يتقنونها هذه على مذهب "كلٌّ ميسرٌ لما خُلق له". أما القطاع الأعظم من معارضي المهاجر فلا يعرفون لتلك الأشغال الفطيرة المراهقة بابا. في مصر الشقيقة عندما اتسع نطاق الجماعات الجهادية، التي انفتقت من قميص سيد قطب، وآوت السجون الساداتية والمباركية، في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، أعداداً كبيرة منهم، جرى تجنيد قطاعات مقدرة من المجرمين العاديين، المدانين بالسرقة والنهب وغير ذلك من القضايا، فانخرطوا من داخل السجون في تلك التنظيمات. ولأن قصارى خبرات أولئك المجندين الجدد في الحياة لم تجاوز ذلك الصنف من الجنايات، فإنهم عندما خرجوا من محابسهم لم يكن في مقدورهم أن يقدموا لكياناتهم الجهادية التي انتموا إليها سوى ما يتقنونه من عمل. وهكذا ظهرت وانتشرت في تلك الحقبة حوادث اقتحام محلات المجوهرات المملوكة للأقباط المسيحيين وسرقتها. وبطبيعة الحال فقد كان من السهل إيجاد المسوغات الفقهية لمثل ذلك النوع من (الجهاد)، وأهل الفقه والفتيا داخل تلك الجماعات كثر. أكاد أجزم أنني طوال عمر كامل من الحياة والمدافعة بين مهاجرة دول العرب والعجم، لم أصادف قط من بين المعارضين لنظام الإنقاذ، وهم كثر، رجلاً وزيناً رزيناً، فالحاً في حياته المهنية، وناجحاً في بيئته الاجتماعية، يخترع الروايات الساذجة ويفرّقها بين أقرانه. أو يهرع ليخبط بها أسنان كيبورده فيرسلها إلى العالم الافتراضي. الحق أن جميع من رأيتهم يسوقون أمامهم أغنام الروايات الساذجة الفجة، ويسعون بها بين الناس، ثم يدلقونها في باحات المنابر الإلكترونية السودانية، يحسبونها انتصاراً لقضية النضال، هم من سقط المتاع، الذين استعصت عليهم حياة المهاجر، وغلبتهم دنياواتها وتخطتهم، فاستعانوا عليها بوهم المعارضة، التي لم يعرفوا لخدمتها سبيلاً غير تأليف الحواديت. هم الذين يعيشون على الهوامش، يأكلون فتات المعونات الاجتماعية، ويعتاشون من ريع أعمال قصديرية لا تسمن ولا تغني من جوع، هي قصارى ما أتاحت لهم قدراتهم المهيضة. هم الذين أفنوا حياتهم بين قناني الخمر الرخيص ولفافات الحشيش وعلب الفياغرا المضروبة. ثم لم يجدوا سلواهم بعد ذلك إلا في صناديق الحواسيب، يقومون إليها، وقد غيَّبت الصهباء منهم كل إحساس مدرك، فيعارضون معارضتهم الغريرة تلك، ويناضلون نضالهم الطرير ذاك! مصطفى عبد العزيز البطل هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته