من الفوائد التي خرجت بها السياسة السودانية من أزمة الأسابيع الماضية وظن الكثيرون أنها أوقفت السودان على شفا الهاوية.. من هذه الفوائد الاقتراب من حل أزمة الانسحابات المتكررة من جلسات البرلمان ومن دوائر السلطة الأخرى، والتهديد بعدم خوض الانتخابات القادمة. وبتفكير قليل يكشف التهديد عن نوع بغيض من الدكتاتورية، وهي ما يمكن أن نسميه دكتاتورية الأقلية. الدكتاتورية دائماً مرتبطة بتحكم الأقليات في الأغلبيات، سواء كانت هذه الأقلية مجموعة من العسكريين أو العقائديين أو الفوضويين أو غيرهم. ما معنى أن تضع السلوك البرلماني أمام معادلة عقيمة (إما أن تفعلوا كذا أو أنسحب من الجلسات)، أو (إما أن تفعلوا كذا أو أنسحب من الإنتخابات). هنا الأقلية تفرض شروطها على الأكثرية تحت التهديد، ولا يمكن أن يسمى هذا سلوكاً توافقياً أو ديمقراطياً بأية حال. ولذلك كان منطقياً وإيجابياً ومثيراً أن نتابع الحوار الساخن في جلسة مناقشة قانون الأمن. مهما احتدت النقاشات فهي أصل من أصول الديمقراطية. إذ من قال أن النقاش تحت قبة البرلمان يجب أن يكون هادئاً ورزيناً وبصوت منخفض. فصاحب الكلمة يقول ما يريد باللغة التي يختارها شريطة أن يكون كلامه في حدود القانون واللياقة. أحيانا قد يتطلب النقاش المفتوح شيئا من الحدة ورفع الصوت واستخدام بعض المحسنات اللغوية كالمترادفات والاستشهاد بالشعر وبعض الأثر. ففي المجتمع السوداني مثلا الناس عموما يعجبون بالمتحدث صاحب الصوت الجهوري القوي، وصاحب النبرة الحازمة، وصاحب البلاغة، والكثيرون يعتبرون هذه المواصفات هي مواصفات الكلام المقنع. إذن رفع الصوت واحتداد النبرة نوع من محسنات اللغة التي يتحدث بها المتحدث، ولكن بعد ذلك يتوقف قبول الكلام على المنطق الذي يستخدمه، وعلى الحجج، فالمتحدث لا يرفع سلاحا ويقول لمستمعيه إما أن تقبلوا كلامي (على علاته) أو أضربكم بالرصاص. والمستمع السوداني متعلما أو غير متعلم، وبذكائه الفطري، يميز بشكل مثير بين الغث والسمين، ولا يتأثر بسلطات المتحدث أو بعدد المؤهلات العلمية التي يملكها، بل بحجم الاقناع الذي يبثه في كلامه. وبعد.. الإنسحاب من جلسات البرلمان احتجاجا لا يعكس إلا رسالة واحدة هي أن المنسحب لا يملك قوة الاقناع الكافية التي تؤثر في مستمعيه. فهو سينسحب، ويفقد فرصته في الحوار، وستجيز الأغلبية أو تسقط أو تعدل ما يقدم للمجلس. وسيتم كل ذلك بلغة التوافق والقبول والرضا، وليس بلغة التهديد .. وأظن أن هذه هي الخلاصة.