[email protected] ( 1 ) سنوات الخمسينيات من القرن العشرين. البلاد تستشرف أفقا ورديا مثلما تتراءى الأحلام والفراديس لعيني شاعر يمتلك خيال الإبداع. إبداع وطنٍ شاسع المساحة ، ملوّن كأنّه قوس قزح . بمعايير التاريخ، فقد حقق جيل الحركة الوطنية منجزات ذهبية . لن يرضى جيل اليوم بمثل ما أكتب هنا من تقريظ ومدح لتلك السنوات البديعة، فأكثرهم يراها محض تمارين في استرجاع ذاكرة آفلة ، أو نوستالجيا لا ترى الجمال إلا في الذي كان ومضى، لا الذي كائن أو سيكون ويأتي . لن أكون منصفاً لجيلٍ يتطلع لباهر الأيام القادمات، كما لن أكون منصفا لجيل أنجز في ماضي سنوات الوطن السابقات لبناتٍ في بناءِ الوطن ، فأميل لطرفٍ دونَ طرف . لا . لكل جيل سماته وظروفه وبيئته، بكامل مميزاتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية . لن أحابي طرفا وأظلم آخر . هو التاريخ الذي ينصف ويقيم ، ولن اقتحم فضاءاته بلا مِعوَل حفرٍ، وبلا مُعينات تدقيقٍ في الوقائع وفي تجلّيات مراحل قطعها الوطن، ببذل ابنائه وجهادهم ومجاهداتهم. أعلم كيف يضيق جيل ماثل من كثرة ما يسمع من ترديد لظواهر مرت بالبلاد في تاريخ مضى ، يظن أنه ما من جدوى لاجترار نفاصيلها ، بل الأوفق أن نتجاوزها إلى الأفق الماثل في آخر الأنفاق التي تأخذنا إلى مصائر جديدة ، وفضاءات تبزغ انجمها لامعة، ونحن نودّع أنجُماً آفلة، خَفتَ بريقُها، أوغادر التماعها، أوذوت إلى فناء . ( 2 ) على كثرةِ ما قرأنا ممّا كتبَ علماء التاريخ عن سنوات الحركة الوطنية ، فإننا نزور تاريخنا زيارات مستمهلة، ونستعيد وقائعه ، دون كثير عمقٍ في أبعاده الاجتماعية ، خفاياها وأسرارها ، فنرى في كثير التفاصيل ملاهٍ ينفد صبرنا دونها. وذلك أمر باهمال أكثر رموزنا تسجيل مذكراتهم وذكرياتهم عن مسيرة حيواتهم وما أنجزوا خلالها وجاهدوا. ولعل أكثر ما لفت نظري في الذي كتب ويكتب فيه د. منصور خالد ، هو تلك الكتابة السابرة أغوار الوقائع ، تربط أطرافها وترصد تطورها بين حقبة وأخرى ، في نظر موضوعي ، يرى التفاصيل بعين بعيدة كأنها في قمرٍ صناعي مُعلّق في الفضاء . أكثر مآسينا أنّا غافلنا أوضاعنا الخاصة في البلاد، وأهملنا النظر في تميّزنا بين أهلٍ لنا في الثقافة، وأهلٍ لنا في الأرض، فتهاوينا إلى أغوار بعيدة من نزاعات وحروبات ومفاصلات واستفتاءات، حتى انتهى بنا الحالُ إلى تشظّي وانشطار وَتبعثُر. . لو نظرنا كيفَ عبّر الأدبُ السوداني عن واقع الحال في البلاد، لما رصدنا إلا القليل . لعل الرواية ، كشكل من أشكال الإبداع الأدبي تطورت متأخراً عندنا ، وأكثر ما أنتج المبدعُ السوداني كان تأثراً بما أنجز كتابُ مصر وروائيوها، من علامات بارزة في مسيرة الأدب الروائي في ساحة الثقافة العربية. لك أن تقول إن فنّ الرّواية نمَا مع بدايات سنوات القرن العشرين. في السنوات الوسيطة من القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الثانية، كبرتْ الرواية على أيدي وأقلام المصريين . عرفنا محمد حسين هيكل وحقي والزيات وتيمور وتوفيق الحكيم وجودة السحار وباكثير ، ونجيب محفوظ . هؤلاء هم آباء الرواية العربية . في السودان بدأت الرواية خجولة ولكنها على أيدي واثقة ، غير أنها لم تخرج من عباءة روائيي مصر. صدرت رواية "إنهم بشر"( القاهرة -1961) للروائي خليل عبدالله الحاج في الخمسينات، وتتالت معها كتابات أبو بكر خالد ، وعثمان علي نور والطيب زروق وخوجلي شكر الله والزبير علي وصلاح أحمد ابراهيم وعلي المك وأضرابهم. ذلك جيل أسس للكتابة القصصية والروائية، بداياتها ومحطات انطلاقها على نسقٍ واقعي ، ولكنك لو أمعنت النظر فقد لا تجد في الذي صدر تلك السنوات ما يوازي، حجماً ومحتوى، ما صدرعن الصحافة السودانية من مقالات في السياسة والإقتصاد، ممّا كان يشغل جيل الحركة الوطنية، منذ عشرينات القرن العشرين وحتى سنوات الخمسينيات منه. ( 4 ) خلاصة قولي، إن الرواية لم تكن كاملة الحضور مرافقة لمسيرة الحركة الوطنية تلك المُرافقة المُلهمة، بمثلما حملت "ثلاثية" نجيب محفوظ ايحاءاً قوياً، قبل وقوع التغيير الكبير في مصر، والذي أفضى إلى إنهاء النظام الملكي في يوليو 1952. التفاعلات الاجتماعية والثقافية في السودان، لم تبرح عتمتها غير المنظورة، فلم نرَ لها تجلّيات بائنة، إلّا بعد أن توغّلنا في سنوات الخمسينيات، كما أشرت عاليه. ما كتب عرفات محمد عبد الله وبابكر بدري و حسن نجيلة، تظلّ مراجعَ مميزة وفريدة ، لما كان مطلوباً توثيقه في ذلك الزمان . ما يقوله التاريخ غير ما تقوله الأعمال الإبداعية أو الروائية على وجه خاص. تكاد تكون أعمال الطيب صالح في سنوات تالية، هي التي جذّرت حكاياتنا في سنوات نشوء الوطن، وهو ينمو - ولا أقول يرزح- تحت نير الاستعمار. مشاهد العشرينيات والثلاثينيات واضحة الملامح في أعماله. كنّا في حاجة لرواية تحيلنا لتفاصيل الحياة في كلية غردون الجامعية على سبيل المثال. كنا في حاجة لعمل أدبي تجري أحداثه في خرطوم الثلاثينيات والتفاعل الاجتماعي بين اثنيات متباينة وجاليات أجنبية مقيمة في حاضرة البلاد وفي أقاصي أطرافها . حين كتبت مقالا من جملة ملاحظات استقيتها من مشاهد بينة في قصائد للتجاني يوسف بشير من ديوانه "إشراقة"، كاد أن ينكر بعضهم إشاراتي إلى كون الشاعر أُغرم في فترة ما من صباه في أم درمان، بفتاة من أسرة شامية كانت تقطن إما حي البوستة أو حي المسالمة . لم نقرأ أدبا عن مثل هذا التفاعل إلا مما نظم بعض شعراء الحقيبة . أغنيات سودانية مثل أغنية "في الاسكلا وحلّ" أو أغنية " لي في المسالمة غزال" ، مثالان بارزان لجرأة شعراء الحقيبة في تناول موضوعات لم تتطرق إليها كتابة الرواية أو القصص القصيرة في تلك السنوات. لم تصلنا تفاصيل قصص الحب العظيمة التي كانت تتداولها الألسن في سنوات الثلاثينيات والأربعينات، وورثنا بعدها، كل هذا الكم الهائل من الشعر الغنائي الذي سماه الشاعر السفير صلاح أحمد أطال الله عمره ،" شعر الحقيبة". ما انجز الراحل علي ابو سن، فيما كتب عن الشاعر محمد المهدي المجذوب، ونعلم ما بينهما من ود كبير وتقدير ، حسب بعض أصدقائنا وبينهم الكاتب المبين مصطفى عبدالعزيز البطل، أنّ تلك الكتابة أفصحتْ بأكثر مما هو مطلوب، وصارت في عداد الكتابة الفضائحية، لا التوثيقية . . ( 3 ) ما الذي استوجب كل هذا الاستطراد ترى ؟ سبب أكثر من مُلحّ ، وأنا أريد أن أكتب إليك عزيزي القاريء عن رواية سودانية ، شخصياتها سودانية ووقاعها أمدرمانية /خرطومية زاهية ، كتبتها الروائية السودانية الأستاذة ليلى فؤاد أبوالعلا مؤخرا (اواخر عام 2010) وعنوانها "زقاق الغنا" أو"حارة المغنى " كما فضلت هذا العنوان كاتبة الرواية نفسها. تدور الرواية حول قصة الشاعر حسن عوض أبوالعلا، وهو عم الكاتبة، وقد عاش حياة جللتها مأساة إصابته بالشلل بعد ارتطام جسده بصخرة في شاطيء الاسكندرية ذات صيف ، وقد كان على أهبة الذهاب للدراسة الجامعية في لندن، بعد أن أكمل تعليمه بكلية "فيكتوريا" المرموقة في مدينة الاسكندرية ، وذلك في سنوات الخمسينات الأولى. تتناول الرواية تشابك العلاقات الأسرية الممتدة وتعقيداتها ، خاصة وربّ الأسرة ، رجل الأعمال "أبو زيد" متزوج من امرأة سودانية ، وامرأة مصرية أيضا، وهو رجل ميسور الحال ، وله نشاط في الساحة التجارية في الخرطوم في ذلك الزمان. تتقاطع حبكة الرواية بين الشواهد الإجتماعية والشواهد الاقتصادية لتنامي القطاع التجاري ورأس المال الوطني، مع التطور الوطني للبلاد ، كما تتقاطع الوقائع لتصادم تقاليد بالية مثل الطهارة الفرعونية ، وقبول الارتباط بزوجة من مصر ، ثم بروز موهبة بطل الرواية في كتابة الشعر الغنائي وتناقضها مع رؤية رب الأسرة رجل الأعمال الرصين"أبو زيد" وشخصيته المرموقة في المجتمع. في قسم من الرواية يلجأ والد الشاعر لمدير الإذاعة لايقاف إذاعة أغنية وضع كلماتها إبنه. لا يليق لابن رجل الأعمال أن يكتب ابنه شعرا يتغنى به غمار الناس. بعد ضغوط يتراجع الأب ويعترف بموهبة إبنه. تحكي لنا الرواية كيف خرجت أغاني الشاعر ، وكيف سمعنا بأغنية مثل التي تغنى بها الفنان الراحل أحمد المصطفى :" سفري السبب لي أذايا. . " ، أو تلك التي تغنى بها الراحل سيد خليفة " أسراب الحسان" . لن أحيلك إلى تفاصيل الرواية ، بل آمل أن يتاح لقراء العربية أن يطلعوا عليها ، فتلك قصة من قصص سنوات الخمسينيات من تاريخ البلاد، جديرة بأن تكون في مكتبة كل قاريء متابع . الذي رأته ليلى في مأساة عمها حسن عوض أبو العلا، وقد أصيب بالشلل وهو يعدّ نفسه للإنطلاق وليتولى إدارة أعمال والده التجارية، هي أنها مأساة لا تقل رهقاً عن مأساة الوطن الذي قبل أن يرفع علم استقلاله ، يفرح بانجاز بذل الحركة الوطنية ، يسقط في نزاع بين الشمال والجنوب ، ويدور القتال فيه لعقود طوال. ليست هي قصة شاعر مصاب بل قصة وطنٍ مصاب ومنكسر . ولقد قاربت ليلى في روايتها "حارة المغنى" بين "نور" بطل روايتها وكيف أصابه الشلل في بدنه، فضاع تطلعه للدراسة في الخارج، وفي قلبه وقد ضاع أمله في الارتباط بمن يحب ، مقاربة لم تفصح عنها إفصاحاً فجّاً، بل تركت القاريء يرى بعنيه كيف سقطت البلاد وقبيل الاحتفال بالاستقلال في وَحلِ النزاعات عام 1955، فانكسرت التطلعات وخاب بذل الحركة الوطنية، إذ انتهينا إلى اقتتالٍ وبوارٍ مطبق. مقاربة ذكية حملتها الرواية تراها أيضاً، في التباس علاقة والد "نور" في تحقيق توازن بين زوجتيه السودانية والمصرية ، وحين تقرر الزوجة المصرية الرحيل إلى القاهرة، فإنك تسترجع إلى الذاكرة تناقض شعارات مرحلة أوائل سنوات الخمسينيات: شعار " وحدة وادي النيل" وشعار " السودان للسوزدانيين". ليس عسيرا عليك عزيزي القاريء أن تحملك الراوية لتتعرف على أسرة "أبو العلا" وابنها الشاعر حسن عوض ابو العلا، ولا إلى الفنان أحمد المصطفى وقد طوّف بصوته في هذه الرواية الرائعة، ولا على أجواء الخرطوم في تلكم السنوات . ها نحن نقف في محطة فاصلة ، ارتضينا فيها بتر شطرٍ من الوطن ، لأنّا لم نحسن استبصار تنوع مكوّناته، ولا أدِرنا أحوالنا بما يحفظ الموارد نتقاسمها بيننا بعدل وقسطاس ، ولا تواصينا على احترام ثقافات بعضنا البعض، فلا نُقصي أطرافنا ولا نهمّش المختلفَ منّا ، وقد ولدتنا أمهاتنا جميعاً من بطنٍ واحد أحرارا، وعفّرنا ترابُ وطنٍ واحد . لم تبدأ قصّة الوطن في يومٍ، ولن تنتهي في يوم ، إن هيَ مسيرة سفين يميد بنا في الموجِ إلى جانب حيناً، وإلى جانب آخر حيناً، فيكون علينا تدبّر وقائع تلك المسيرةِ واستبصار عثراتنا فيها لنتجاوزها، وتقييم منجزاتنا عبرها، لنزيد عليها فيربو نمَاء الوطن . ما كتبت ليلى من قصٍّ فيه تذكير بحالنا . فيه درس لنا من تاريخنا القريب . ( 5 ) لا بُدّ أن أشير إلى أنّ ليلى أبو العلا، وهي تكتب رواياتها باللغة الإنجليزية، وطدتْ لقلمها مكانة سامقة في الساحة الأدبية في بريطانيا وفي الولاياتالمتحدة. لقد صدرتْ روايتها الأخيرة "حارة المغنى" مُتزامنة في البلدين، ووجدتْ احتفاءاً يليق بقلمها وبمقدراتها الروائية الفذّة، فالتفتت أقلام كبيرة لروايتها الأخيرة . في بريطانيا ، كتبتْ عنها ال"ايكونوميست" عرضا خاصاً، وكذا كتبت ال"صنداي تلغراف" و ال"فاينانشيال تايمز" وبعض صحف ومجلات في اسكتلندا ، وفي الولاياتالمتحدة ال"نيويورك تايمز" وال"بوستون جلوب". وضع موقع "اوبرا وينفري" رواية ليلى ابو العلا، ضمن افضل الكتب التي توصي الإعلامية الكبيرة، بقراءتها لعام 2010. وصلت رواية "حارة المغنى" للقائمة الطويلة لجائزة "أورينج" المرموقة في بريطانيا لعام 2011 ، وكذلك لنيل جائزة أفضل كتاب في اسكتلندا لعام 2011 ، كما جرى ادراجها في القائمة القصيرة لجائزة "الكمونولث" لأفضل كاتب لعام 2011. لقد حققت ليلى أبوالعلا فتحاً للكتابة السودانية والإبداع السوداني ، يوازي ما أحدثه الرّاحل الطيب صالح بكتاباته الروائية . ولولا كسل الترجمة عندنا، لكانت أعمال ليلى الروائية مُتاحة للسودانيين في لغة عربية مبينة . نحمد للرّاحل الخاتم عدلان جهده لاخراج رواية ليلى الأولى "المترجمة" والتي صدرت مترجمة بقلمه إلى العربية عن دار الساقي في لندن وبيروت، وفي أكثر من طبعة. ولقد أنجزتْ، الأستاذة سامية عدنان وكاتب هذه السطور، ترجمة مجموعتها القصصية "أضواء ملوّنة" إلى العربية، آملين أن تخرج عن دار عزة للنشر، خلال الأشهر القليلة القادمة. حريّ بنا أن نحتفي بالروائية ليلى أبو العلا, ونحن في حاجة لأن نقرأ أعمالها بداية ، فهي تعيننا على إعادة اكتشاف ما نحن عليه من تنوع خلاّق، يحيلنا لأن نكون في ريادة الحركة الابداعية في اقليمنا من جديد . الآن ليلى أبو العلا تقف كاتبة عالمية يشار إليها ويقرأ أعمالها متابعون عبر القارات ، وليتنا نتعرف إلى أعمالها، فما أشدّ حاجتنا إلى النّظر في دواخل ذواتنا . . الخرطوم- 25 يونيو 2011