محمد عثمان وردي سيظل يذكر اسمه في أي محفل أو موضع أو مقال أو مجال تكون فعالباته تتحدث عن تاريخ الأغنية السودانية ومراحل تطور الغناء السوداني الحديث أو الغناء الشعبي اللصيق باللهجات المحلية الموغل في الاقليمية و (الريفية)، لقد دخل وردي (ساحة) الغناء من باب (الطمبور) عبر ربوع السودان، الذي كانت تتلاقح وتتلاقي عنده وتمتزج فيه (عناصر) الفن الشعي الأصيل النابع من (تراب) هذا الوطن الغني بموروثاته وتراثه (الممتد) عبر السهول والأحراش و (جزر النيل وجروفه) والريف الجميل الملهم. ورغم أن جمهور مستمعيه في تلك الوهلة الأولي لم يكونوا يحسنون بل (يفهمون) تللكم اللهجة النوبية (لغة المحس) ولكنهم طربوا للألحان الشجية واستلبهم ذلك الأداء (المموسق) النابع من (حنجرة) ارتوت من (التراث) وفاضت على (الخرطوم) تشدو وتغني وتلهب مشاعر الملايين من بعد، حنجرة (تتدفق) عذوبة ورقة ورومانسية في (لو بهمسة) (بعد ايه) (الطير المهاجر) و (قاسي قلبك على ليه) و (نور العين) وغيرها من شاعرنا المجيد اسماعيل حسن والشعراء البارعين الذين تغنى وتفنن وردي في تلحين قصائدهم التي (سعت) و انتشرت وصار لها دوي عبر الحانه (الطروبة) الشجية، كما انطلق صوته القوي (يدك) حصون (الظلم) ويلامس مسامع (العامة) في (أصبح الصبح) و (أكتوبر الأخضر) و (اليوم نرفع راية استقلالنا) و (يقظة شعب) والملاحم الأخرى التي يضمها (ملف) أناشيده القوية التي كان لها مفعول السحر في تأجيج مشاعر (الوطنية) واذكاء نار (الحماس) وسط الجماهير. لقد ترك الفنان وردي منظومة كبيرة من الأعمال الفنية التي تنافس بعضها كما قال في احدى اللقاءات الصحفية التي اجريت معه. انها (موسوعة) كبيرة امتدت لأكثر من خمسين عاما من الانتاج المتواصل والعمل الدؤوب. أعمال موسيقية جبارة (سكب) فيها عصارة جهده ارتقت الى مستويات عالية بشتى انماطها وألوانها الغنائية والموسيقية تناولت جميع أشكال (النسيج) الفلكلوري، ان صح التعبير، فقد اشتملت ايقاعاته على كافة الايقاعات الاقليمية والقومية في جميع أنحاء السودان (موظفا) لها في خطوط موسيقية متجانسة ومتداخلة (مزركشة) تعكس (الثوب) القومي الموحد في اطر لحنية (متجانسة) طرب لها ليس أهل السودان فحسب بل (تعدى) مفعولها الى دول الجوار مثل أثيوبيا والصومال وارتريا وتشاد وغيرها من الدول الافريقية الأخرى. وبالفعل كان وردي (هرما) نعتز ونفتخر به وقد التف حوله جميع ابناء السودان قاطبة بدون تمييز، فهو ليس ملكا لأهله في قريته (صوارده)، بل (علم) جسد و (استقطب) كافة ألوان الطيف الاجتماعي والقومي وشكل وجدانهم. والمجال ضيق لا يسع، كما أنني لا أدعي معرفتي بالتنوع (الكمي) و (النوعي) لانتاجه الغزير الثر الذي خلفه، والذي سيكون مجال (بحث) واسع يتنافس فيه المتخصصون في ضروب الفن. لعل المهتمين بالثقافة الموسيقية السودانية يعكفون على دراسة ذلك الارث الذي خلفه من رحل عنا من الفنانين وعلى رأسهم الفنان القدير وردي الذي يعتبر خير مثال حي لما قد يقوم به الفن من (توحيد) المشاعر القومية وتقريب الشقة بين بني وطن البلد الواحد بصرف النظر عن معتقداتهم الدينبة والفكرية والثقافية وألوانهم العرقية والاقليمية، وصهر كل تلك الصفات في (بوتقة) واحدة يجمع عليها (غفيرهم) و (أميرهم) على حد سواء. لقد بكى وحزن أهل السودان لفراق فنانهم وعبروا عن حزنهم بما اتيح لهم من وسائل وأشكال مختلفة، وقد تجسد ذلك الحزن و (الحب) للرحل وردي في موكب جنازته المهيب والكم الهائل من رسائل ومكالمات ومداخلات التعزية التي تقاطرت على القنوات الفضائية السودانية، القومية والأهلية التي أفردت العديد من البرامج للحديث عن تاريخ الراحل الحافل بالذكريات والأحداث وأعماله وحياته ودوره الكبير في ارساء قواعد الأغنية السودانية وتطويرها. وفي أعادة بث العديد من التسجيلات والبرامج واللقاءات التي أجريت مع فناننا الراحل التي قدمت في سالف الأيام والمناسبات القومية والاجتماعية التي شارك فيها الراحل، سيما وأنه بالرغم من مشاغله كان رجلا مواصلا واجتماعيا من الطراز الأول، فقد التقيت الفقيد مرة واحدة في احدى رحلاته (الغنائية) والاجتماعية التي كان يلتقي فيها الكثير من معارفه وأهله وعشيرته وأفراد الجالية السودانية المقيمين في مدينة الرياض العاصمة السعودية، كان ذلك في العام 1984 في شهر رمضان المعظم، وقد جلست معه في منزل الجار العزيز الفقيد، كامل خليفة، يرحمه الله، الذي أقام على شرفه مائدة افطار رمضانية وتبادلنا أطراف الحديث، ووجدته (رقيق) المشاعر، متواضع (يصغي) للرأي الآخر ويعيره كل اهتمامه، ويحسن استقبال ضيوفه، فقد سلم علي كمن كان يعرفني من قبل، رغم أنني التقيه للمرة الأولى، وأذكر، ان لم تخني الذاكرة عرضت عليه رأيي في مسألة تغيير بعض أشكال (القوالب) الموسيقية التي الفتها اذن المستمع في اغنية (مسموعة) ومذاعة من قبل، أو إجراء بعض التغييرات (الطفيفة) مثل المقدمات الموسيقية و ادخال بعض (الصولات) {الصولو: هي الجملة الموسيقية التي تعزفها آلة واحدة بشكل منفرد} الموسيقية التي تلعبها بعض الألات الموسيقية مثل (الجيتار) أو (الأورغن) أو (الكمان) أو (الفلوت) وغيرها من الآلات الموسيقية الأخرى، وفي الآونة الأخيرة تطورت المسألة فشملت تغيير (النمط) والاسلوب الايقاعي، الذي (أسقط تماما) الايقاع المنغم، الذي يعتمد اما على الجيتار أو (الكاونترباص). نسأل الله أن يتقبل وردي قبولا حسنا ويسبغ عليه ثوب الرحمة و المغفرة وأن يبارك في ذريته ويلهمهم وآله وذويه الصبر والسلوان. alrasheed ali [[email protected]]