لم تكن هى المرة الأولي التي تقرّ فيها واشنطن – رسمياً – بتحسن الأوضاع واستقرارها فى إقليم دارفور، فقبل ان يقرّ الموفد الأمريكي الخاص بدارفور (دان سميث) بهذه الحقيقة ضمن اجتماع مطول جمعه – الأحد الماضي – بوكيل وزارة الخارجية السودانية السفير رحمة الله محمد عثمان بمقر الوزارة بالخرطوم، كان سميث نفسه قبل أشهر قد أقر بهذا التحسن كما أن الموفد الخاص الى السودان برنستون لميان هو الآخر سبقه فى الإقرار بهذه الحقيقة وقبلهما - بأشهر طوال - كان الموفد السابق سكوت غرايشون قد أقر بذات الحقيقة، بل ان غرايشون حينها بلغ به الإقرار درجة نفي تهمة الإبادة الجماعية فى دارفور قبل ان تهب عاصفة غُلاة جماعات الضغط فى واشنطن لتجبره على التراجع عن هذه الجزئية تحديداً. إذن لدي واشنطن قناعة إما أنها قد تبلورت رسمياً او فى طريقها للتبلور وبالطبع ليس أمراً عادياً او سهلاً أن يصدر إقراراً – بهذا الحجم – وبصفة رسمية من واشنطن بهذا الصدد، ليس لأن الحقيقة مملوكة لواشنطن وحدها وهى المتصرفة الوحيدة فيها تخرجها متي تشاء وتخفيها وتتلاعب بها أني تشاء؛ ولا لأنَّ شهادة واشنطن - رغم كونها قوة عظمي لها تأثيرها فى مجريات الشأن السياسي الدولي- بمثابة قلادة شرف تستحق التهافت عليها لنيلها. إن واشنطن فى الواقع لا تفعل سوي أنها ترد الى السودان بضاعته، فقد أتي حينٌ من الزمان سرقت فيه مصداقية هذا البلد، وأشاعت عنه عبر شتي الوسائل والطرق أنه بلد جرائم الحرب والإبادة الجماعية، وقد تسبب هذا الوضع فى أن يصل الأمر لدرجة استصدار مذكرة توقيف من محكمة الجنايات الدولية بحق الرئيس السوداني بإتهامه بارتكابه جرائم حرب. وقد أصرَّ مدعي عام محكمة الجنايات الدولية فى تقريره الأخير منتصف ديسمبر الجاري أمام مجلس الأمن على ان الجرائم لا تزال ترتكب فى دارفور بواسطة المطلوبين السودانيين، وأن من الضروري توقيفهم لإيقاف إرتكابهم لهذه الجرائم. لقد كانت واشنطن تصغي للهراء الذى كان يدلي به مدعي عام المحكمة، وكانت تعلم أن ما يقوله غير صحيح ومع ذلك فضلت ان تلزم الصمت. إن مكمن الاختلال هنا هو أن واشنطن كانت ستكون أكثر مصداقية فى هذا المنحي لو أنها قالت بإقرارها هذا هناك، حين كان التقرير يقدم أمام مجلس الأمن، إذ ليس من المتصور ان تتجزأ القناعة بهذا الشكل المريع، بحيث تكون هناك قناعة بعينها فى مجلس الأمن وأخري مختلفة خارج المجلس وداخل القاعات المغلقة، ولهذا فان أهمية الإقرار الأمريكي بتحسن الأوضاع فى دارفور علاوة على أنها تحبط إمكانية اتخاذ مجلس الأمن حاضراً أو مستقبلاً لأي إجراء او قرار سالب حيال السودان سواء بسبب مذكرات التوقيف أو لأي سبب آخر متعلق بأزمة دارفور، فهي بالضرورة تنزع المصداقية تماماً من الاتهامات الحالية – القائمة على ذات شاكلة دارفور فى ما يخص أحداث جنوب كردفان والنيل الازرق، فالفارق منعدم فى الأزمتين لأن كليهما ارتبط بعمل مسلح قادته مجموعات متمردة من الطبيعي ان تتصدي له الحكومة السودانية، كما تفعل اى حكومة حين تواجه برفع السلاح فى وجهها . لا يدري أحد من حيث المنطق العادي المجرد كيف يصبح التصدي لعمل مسلح جريمة. من المؤكد أن واشنطن كعادتها تستخدم الأمر كورقة سياسية وأداة ضغط، ولكن ألا تشعر بأن هذه الورقة بالذات قد أصبحت بالية ومتهرئة ولم تعد بذات الملمس والبريق واللمعان القديم؟