هذه المرة بدا السيناريو مكشوفاً على نحو طريف للغاية، فما أن اقترب موعد مناقشة مقترح أمبيكي الخاص بأبيي فى مجلس السلم الإفريقي، حتى حرّكت الولاياتالمتحدة مدعية محكمة الجنايات الدولية لتزعم الأخيرة أنها بصدد الدفع باتهامات جديدة ضد مسئولين سودانيين عن جرائم جديدة فى دارفور. وعلى الجانب الآخر أيضاً رابطت كلٌ من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا قرب مقر مجلس السلم الإفريقي فى أديس أبابا – وجميعهم يمسكون بزر توجيه عن بعد – لإدارة الوضع داخل الاجتماع لصالح زحزحة الملف وإحالته الى مجلس الأمن. من المؤكد أن تحركات المدعية الجنائية (فاتو بنسودا) وثيقة الصلة باجتماع مجلس السلم الإفريقي. ومن المؤكد أيضاً أن العواصم الثلاث (واشنطن وباريس ولندن) كانوا يتهيئون لقطف التفاحة التى كان مجلس السلم سوف يلقي بها إليهم باتخاذ قرار ملزم للسودان بشأن نزاع أبيي ومن ثم إحالته – فى وقت لاحق – الى نيويورك؟ وهكذا، فإن الدول الثلاث حثت مجلس السلم على تبنِّي القرار بينما طالبت كل من روسيا والصين بمنح الدولتين – جوبا والخرطوم – فرصة إضافية لمحاولة حسم النزاع إفريقياً وللمزيد من الحوار والتفاوض. وبدا الأمر إجمالاً، مجرد تأجيل للأزمة الى حين، وحتى تنقطع كافة الحجج والمبررات. ولعل الأمر الملاحظ -بغرابة شديدة هنا- أن الدول الكبرى الثلاث مهتمة إهتماماً استثنائياً وغير عادي بنزاع أبيي حتى ليبدو أن المنطقة وكأنها تقع ضمن أراضي هذه الدول، وهو أمر سيظل يرسم مئات من علامات الاستفهام والتعجب لعقود قادمات. كما أنه أمر من شأنه أن يكشف عاجلاً وليس آجلاً عن طبيعة الحيل والأحابيل الماكرة التى أُعدت من قبل هذه الدول الثلاث لنزع أبيي انتزاعاً من السودان مهما كلف الأمر. ولهذا فإنه وعلى وجاهة الحجج السودانية من أنّ النص الخاص باستفتاء أهل المنطقة الوارد فى بروتوكول أبيي يشمل المسيرية والدينكا؛ فإن الاتجاه الجاري حالياً على المستوى الدولي هو أن يقتصر الاستفتاء فقط على دينكا نقوك وهو تفسير -للأسف الشديد- ليس ظالماً وخاطئاً فحسب، ولكنه يقفز فوق حقائق الواقع بجرأة ووقاحة سياسية نادرة. كل هذا الحراك والزخم الجاري يهدف الى إقرار تفسير أحادي الجانب لنص الاستفتاء بحيث يكون مقتصراً فقط على السكان الجنوبيين. ولعل الأمر الأكثر مدعاة للحزن هنا أن المجتمع الدولي بهذا المسلك يعمل على رسم لوحة سريالية قاتمة للنزاع بحيث يتحول من مجرد نزاع حدودي عادي له آلية واضحة للحل باتفاق الطرفين، الى نزاع حاد ودموي يمتد الى عشرات السنين فى المستقبل وهو الأمر الذى يهدد – بحق – الأمن والسلم الدوليين. ولسنا فى حاجة الى الإشارة هنا أن ممارسة الضغوط على السودان عبر آلية الجنائية الدولية ومجلس السلم الإفريقي وحديث المبعوثين الأمريكيين (ليمان) و (دان سميث) بلغة متعالية وعنجهية ظاهرة بشأن مستقبل علاقات السودان بالولاياتالمتحدة، وتصوير هذه العلاقات وكأنها سلسلة من الشروط الواجبة الوفاء من قبل السودان تجاه واشنطن؛ كل هذه مؤشرات للسيناريو المنتظر، وهي فى الوقت نفسه نوع من الاستناد الى القوة فقط وليس قوة المنطق ولا قوة القانون. ربما حسبت واشنطن مقدار الدماء التى قد تسيل إذا ما مضي المقترح الإفريقي إلي نهاياته ووجدته لا يبعث على القلق فى تقديرها أو ربما فكرت فى استجلاب قوات دولية معززة بمقتضيات الفصل السابع لترابط فى المنطقة، ولكنها فى خاتمة المطاف لم تحسب حساب طبيعة مستقبل العلاقات بين الدولتين الجارتين وحاجة الدول الجنوبية الماسّة للسودان بحيث يشكل بالنسبة لها القصبة الهوائية التى لا بديل بها ولا محيد عنها، وإلا توقف تنفسها وحدث لها هبوط حاد أودى بحياتها. واشنطن الآن لا تنظر بأكثر من أرنبة أنفها وقد درجت على ذلك وهى تتعاطى مع الأزمات المشابهة، تستهين بالمآلات والتداعيات وتحسب حساباً بسيطاً ساذجاً وفى ظاهرها القوة العسكرية والبوارج والأساطيل المدججة بصواريخ كروز!