بقلم الأستاذ حسن أبو عائشة – مدير جامعة الرباط السودانية البروفسور جيفري لانغ، أستاذ الرياضيات في جامعة أمريكية اعتنق الإسلام حديثا، وروى تجربته مع أول صلاة أداها ونشر ذلك في كتاب أوردت ملخصه صحيفة الشرق الأوسط (8/12/2001). وهي تجربة جديرة بالتأمل، نوردها هنا بتصرف. يقول جيفري في اليوم الذي اعتنقت فيه الإسلام قدم لي إمام المسجدِ كتيبا يشرح كيفية أداء الصلاة. غير أني فوجئت بما رأيته من قلق الطلاب المسلمين، فقد ألحوا علي بعبارات مثل: (على مهلك، خذ وقتك، لا تضغط على نفسك كثيرا.) وتساءلت في نفسي: (هل الصلاة صعبة إلى هذا الحد؟) وتجاهلت نصائح طلابي وقررت أن أبدأ فورا بأداء الصلوات الخمس في أوقاتها. وفي تلك الليلة، أمضيت وقتا طويلا في شقتي أدرس حركات الصلاة وأكررها، وكذلك الآيات القرآنية التي سأتلوها. وحفظت النصوص باللغة العربية ومعانيها باللغة الإنجليزية. وبعد عدة ساعات رأيت أني على ثقة كافية في نفسي لتجربة الصلاة الأولى. ولما كان الوقت قد جاوز منتصف الليل فإن صلاة العشاء كانت هي الصلاة المناسبة لأدائها. دخلت الحمام ومعي الكتيب، وفتحت صفحة الوضوء. وتبعت الخطوات خطوة خطوة مثل طاه يجرب وصفة لأول مرة في المطبخ. وخرجت والماء يقطر مني، إذ إن التعليمات تقول إنه من المستحسن ألا تستعمل المنشفة بعد الوضوء. ووقفت في منتصف الغرفة متجها إلى القبلة بعد أن حددت اتجاهها. نظرت إلى الخلف لأتأكد أني أغلقت باب الشقة جيدا، إذ لم أكن أرغب أن يراني أحد. اعتدلت في وقفتي، أخذت نفسا عميقا، ورفعت يدي، وبراحتين مفتوحتين ملامسا شحمة أذني بإبهامي، ثم بعد ذلك قلت بصوت خافت: الله أكبر. كنت آمل ألا يسمعني أحد، هل يتجسس علي أحد؟ وفجأة أدركت أني تركت ستائر الغرفة مفتوحة. ماذا لو رآني أحد الجيران؟ تركت صلاتي، وهرولت نحو النافذة، وتطلعت منها. وأحسست بالارتياح إذ لم يكن أحد في الساحة الخلفية. أغلقت النافذة وأحكمت قفل الستارة، وعدت إلى صلاتي. واعتدلت مرة أخري، ورفعت يدي، وقلت بصوت لا أكاد أسمعه: الله أكبر. قرأت الفاتحة بصوت خفيض وبتلعثم شديد. ثم قرأت سورة قصيرة، كل ذلك باللغة العربية، مع أني متأكد أن واحدا من العرب لو سمعني لم يكن ليفهم مما أقول شيئا. ثم: الله أكبر، وانحنيت، حتى صار ظهري متعامدا مع ساقي ووضعت كفي على ركبتي. شعرت بالإحراج الشديد، إذ لم أنحن لأحد في حياتي. ولذلك سررت لأنني وحدي في الغرفة. وفي ركوعي كررت عبارة : (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات، ثم اعتدلت واقفا: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. أحسست بقلبي يخفق بشدة، وتزايد انفعالي عندما كبرت مرة أخرى بخضوع. الآن حان وقت السجود. تجمدت في مكاني، وحدقت في البقعة التي ينبغي أن أهوي إليها بجبهتي. لم أستطع أن أهوي على أطرافي الأربعة وأضع وجهي على الأرض، لم أستطع أن أذل نفسي إلى هذا الحد. وتذكرت صور العبيد الذين يتذللون أمام سادتهم. خيل إلى أن ساقي مقيدتان لا تقدران على الانحناء. وأحسست بكثير من العار والخزي. وتخيلت ضحكات أصدقائي ومعارفي وهم يراقبونني وأنا أجعل من نفسي مغفلا أمامهم، وكدت أسمعهم: مسكين جيفري، فقد أصابه العرب بمس، أليس كذلك؟! وأخذت أدعو: أرجوك ربي، أعني على هذا. أخذت نفسا عميقا، وأرغمت نفسي على النزول. الآن صرت على قوائمي الأربع. ترددت لحظات قليلة، وبعد ذلك ضغطت بجبهتي على الأرض. يجب أن أفرغ ذهني من كل الأفكار. سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات. الله أكبر. لن أسمح لأي شئ ليشغل تفكيري. وضعت جبهتي مرة أخرى. الله أكبر. وعندما انتهت الركعة الأولى وانتصبت واقفا كنت مرهقا تماما. قلت لنفسي: لا تزال هناك ثلاث جولات أخرى! صارعت كبريائي وعواطفي فيما تبقى من الصلاة. وفرغت ذهني، وأديتها وأنا أصارع كي لا يصرفني عنها أي نقاش داخلي، وقد صار الصراع أهون تدريجيا. وفي آخر شوط كنت في سكينة تامة تقريبا. قرأت التشهد. السلام عليكم، السلام عليكم. ظللت جالسا على مؤخرتي، وقد بلغ مني الإعياء مبلغا كبيرا. راجعت المعركة التي مررت بها. لقد أحسست بالإحراج والخجل لأنني احتجت لأن أعارك نفسي كل ذلك العراك حتى أكمل الصلاة. دعوت الله بخجل: (اغفر لي تكبري وغبائي، فقد أتيت من مكان بعيد ولا يزال أمامي طريق طويل لأقطعه.) وفي تلك اللحظة شعرت بشئ لم يمر علي من قبل، ويصعب علي وصفه. فقد اجتاحتني موجة لا أستطيع وصفها إلا بأنها كالبرودة. بدا كأنها تشع من مكان ما في صدري، كانت موجة عارمة. فوجئت بها في البداية، وبدأت أرتعش. سيطرت علي تلك الموجة بطريقة غريبة. لقد بدا لي كأن الرحمة تجسدت في صورة محسوسة وأخذت تغلفني وتتغلغل في جسدي. ومن غير أن أعرف السبب بدأت الدموع تنهمر من عيني. ووجدتني أنتحب بشدة، وكلما زاد بكائي ازداد شعوري بأن قوة خارقة من اللطف والرحمة تكتنفني. لم أبك بسبب الشعور بالذنب (رغم أن ذلك جدير بي)، ولم أبك بسبب الشعور بالخزي والعار أو السرور. بدا كأن مخزونا ضخما من الخوف والغضب قد انفتح من داخلي. ظللت مدة طويلة جالسا على ركبتي على الأرض، منحنياً على الأرض، ورأسي بين كفي، وأنا أنتحب. وعندما توقفت عن البكاء أخيرا، كنت مرهقا للغاية. كانت تجربة جارفة، تجربة غير عادية. وبينما أكتب هذه السطور لا يسعني إلا أن أتساءل عما لو كانت مغفرة الله عز وجل لا تتضمن مجرد العفو عن الذنوب، بل تغمرك أيضا بالشفاء والسكينة. وقررت أن هذه التجربة أغرب من أتحدث عنها لأحد. أما أهم ما أدركته في ذلك الوقت فهو أني في حاجة ماسة إلى الله، وإلى الصلاة. وقبل أن أقوم من مكاني دعوت الله بهذا الدعاء الأخير: (اللهم إذا تجرأت على الكفر بك مرة أخرى، فاقتلني قبل ذلك وخلصني من هذه الحياة. يارب، قد أستطيع العيش بصعوبة بكل ما عندي من العيوب، ولكن لا أستطيع أن أعيش يوماً واحداً وأنا أنكر وجودك.)