والبلاد تحتفل بالذكرى(57) من عيد الاستقلال،، الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتداعياتها ظلت في حالة حراك مستمر مابين الحكومة والمعارضة من جانب، ومابين الحكومة ودولة الجنوب فيما يخص القضايا العالقة، والتي طال أمد المفاوضات فيها، بينما السودان في خضم كل هذه الأحداث هناك الضغط الدولي عليه فى كثير من قضايا الحريات والديمقراطية، والمشهد السياسي السوداني تدور فيه نزاعات مسلحة في أطرافه التي تخضع لسياسة الشد واشعال الحرائق الصغيرة، كل هذه الملفات الداخلية والخارجية وأوراقها الكثيرة، حملتها آخر لحظة في ديباجة أسئلة ضرورية ووضعتها بين يدي البروفيسور حسن مكي مدير جامعة افريقيا العالمية، والمفكر الإسلامي والمحلل السياسي مقلباً لهذه الأوراق في اجابات لا تنقصها القراءة العميقة لما وراء الأخبار والأحداث ...!! فالى مضابط الحوار في قراءة ما حمله عام 2012م وما سيحمله العام القادم للسودان : حوار عيسى جديد ... * ماذا عن حديث المعارضة عن حل الحكومة والدخول في مرحلة انتقالية؟ - أعتقد أن كل الحلول ممكنة ولابد من الحوار حولها ونحتاج إلى الكثير من التفكير في كل المسارات. * ما هو رأيك في ظهور الخلافات ما بين السلفية والصوفية وتداعياته كلما اقترب الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وهذه المعارك، ألا ترى أنها تضيع للإسلام وقتاً ثميناً؟ - هذا مؤكد لكن الشاهد أن المزاج الديني في السودان قام على ما كان سائداً في السلطنة الزرقاء والسلطنة السنارية، وتلك الثقافة عبر عنها المعهد العلمي بأم درمان والسودان الذي نشأ بحركة ذاتية فاضطر الاستعمار إلى الاعتراف به، فالمعهد العلمي هو الذي حرك المشهد الديني الماثل الآن والمزاج الديني يكون من المذهب المالكي، وللأسف الشديد الناس في السودان لم يدرسوه جيداً لذلك لابد من دراسة المذهب المالكي باعتبار أنه أساس الفكر الإسلامي في السودان، وكذلك يجب أن نفكر في ربط هذا المزاج الديني في التعليم الحديث والقوامة لمجتمع بدون الحداثة والتجديد ومن المؤكد ذلك وهنا نتساءل لماذا قبل الناس بالإنجليز لأنهم وجدوهم للأسف الشديد أفضل من حكومة عبدالله التعايشي والتي كانت ترفع الراية الدينية فقط لكن فهمها للراية الدينية كان فهم القرن الرابع الهجري وليس فهم القرن العشرين الميلادي، وجاء الإنجليز بكلية غردون التذكارية والتي أصبحت جامعة الخرطوم، وفي عام 1906 حدثت مجاعة سنة 6 والإنجليز استطاعوا قهرها وجاءوا بالعيش والذرة من الهند، بينما مجاعة سنة 6 في 1889م مات الناس من الجوع، فقارن الناس بين أسلوبين في التصرف ولذلك الآن الخطاب السلفي الذي يعتقد أن الدين يمكن أن يكون خارج نطاق التجديد ومنجزات القرن العشرين، هذا رجوع إلى الخليفة عبد الله التعايشي في إطار التجريد والكلام عن التوحيد وكذلك القبول بالعلمانية بدون المزاج الديني، ومزاج المعهد العلمي هذا جرف للسودان عن أساسه وجذوره وعن تقاليده وجذوره وعن ميراثات قلبه وضميره ولن يورثنا إلا التشتت والحيرة ومزيداً من بروز الحركات التصحيحة والتكفيرية وإهدار الوقت في الصراعات ما بين الأصيل والدخيل وأيضاً صراع السلفيين مع الصوفية يعتبر هدراً للطاقات والإمكانات... * مقاطعاً: الملاحظ أن الناشطين لدى بعض السلفيين كوادر علمية وطلاب متميزون «خلية ولاية سنار مثالاً»، فكيف انتحوا جانب العنف لتوصيل أفكارهم؟ - هذا ما تحدثت عنه سابقاً عن المزاج الديني وعدم قراءة النص الديني وتاريخه لهؤلاء مما أوقعهم في إشكالات وكذلك قراءة تاريخ الدعوة الإسلامية في السودان وكيف تنزل النص الديني، وهنا أضرب مثالاً بالنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبة حينما طلب منه أن يرجع.. فرجع.. وحينما جاء في العام الثاني طاف حول الكعبة ولم يطهر الكعبة من الأوثان والأصنام وطاف حولها وخرج لأنه تعاهد مع الناس وكان هذا هو العهد الذى بينه وبين الناس، ولذلك أقول إن قراءة النص الدينى مجرد عن السيرة يوقع الكثيرين في الالتباس، لأن السيرة تعبر عن النص، ومثال آخر أنظر إلى نص تحريم الخمر الذي جاء في أربعة مراحل وليس في مرحلة واحدة فقوله تعالى «... تتخذون منه سَكَراً ورزقاً حسناً...» يعني من الفواكه، فالناس فهموا أن السكر شيء والرزق الحسن شيء آخر، وجاءت الآية الثانية «... قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما...»، ثم جاءت الآية الثالثة«لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى...»، ثم في النهاية حرمت «... إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه...»، ولذلك نجد أن التدرج هنا واضح في مسألة التحريم، ولم يكن مثل ما يحدث الآن بالهجوم مباشرة وتكفير الناس وتسفيه أفكارهم وخلق العدواة وهذا كله برأيي حلقة مفرغة. * هذا يقودنا إلى المحيط الإقليمي وما يدور فيه من صراع وحروب للإسلاميين السلفيين دور واضح كظهورهم في القرن الأفريقي «الصومال» وفي غرب أفريقيا «مالي»، أنت كخبير فى العلاقات الأفريقية كيف تقرأ هذا المشهد الساخن الآن؟ - طبعا هنالك ظلم واقع على المسلمين وأي انسان قلبه نظيف وفكره نظيف وعنده قدرة على حمل السلاح يجد ان هذا هو المخرج ..والتاريخ لا يكذبنا فما حدث في العراق واضحٌ حين تم إحتلاله تحت أكذوبة بأن هنالك أسلحة دمار شامل، ولكن الآن ماذا حدث في العراق لقد قُتل أكثر من مليون مدني ومازالوا يُقتلون باسم الحرب على الإرهاب وباسم تلك الأكذوبة واصبح العراق مقسم مابين «سنة وشيعة وأكراد» وهو ما خُطط له..والآن الحرب مستمرة على مايُسمى بالإرهاب والطائرات بدون طيار تقتل الناس في اليمن ولا تمييز بين المدنيين والمقاتليين، وكذلك هي في باكستان وافغانستان في بشاور وفي غيرها واللاجئين والنازحين من المسلمين مأساة اخرى وقضية فلسطين وفي الاخبار وصول طائفة من الهند ليتم توطينها وهم سبعة الاف هندي ويقال في أسطورة يهودية أنهم أحد اسباط بني إسرائيل الضايعين قبل اثنين الف وسبعمائة سنة بينما أصحاب الأرض والجنائن في الشتات ويصطادون بالطائرات، وهذا يعكس عمل المنظومة العالمية وهندستها وظلمها للاسلاميين، مما أدى إلى ظهور العنف ورد الظلم وشيء طبيعي أن يكون هنالك فعل طبقاً لنظرية «لكل فعل رد فعل مساوياً له» والغريبة هو ان العالم الإسلامي كله لم يتحرك ...ولذلك نجد مثل هذه التحركات في البلاد التى ذكرتها وغيرها دفع للظلم *إذًا كيف ترى إغلاق ليبيا لحدودها مع بعض الدول المجاورة في ظل الظروف المحيطة وهل لهذا علاقة بعبور بعض المجاهدين السودانيين إلى مالي ؟ أنا أعتقد ان هذا شيء طبيعي فليبيا تحاول ترتيب بيتها الداخلي وهي الآن بعد الثورة تحتاج الى ذلك والى حالة الانكفاء الداخلي والسيطرة على حدودها فمصر ايضاً في حالة انكفاء داخلي ولديها ثروات كبيرة، ومشاكل كثيرة، فكل تلك الدول تحاول أن تقنن قوانييها تماشياً مع ثورتها ودساتيرها في كثير من المعاملات مثل قوانين العمل والهجرة، وهي لا تسمح بطبيعة الحال ان تكون بلادهم ممرًا للطالبين العمل أو لاغراض اخرى تهدد أمنها لتضاف اليهم أطنان من المشاكل وهي بلاد في طور التكوين الجديد .. *على ذكر مصر وليبيا وثورات الربيع العربي ووصول الاسلاميين الى سدة الحكم ومازال المخاض مستمراً حتى الآن ..ماهي قراءتك لما يحدث في تلك البلاد ؟ اذا أردنا قياس ذلك علينا أن لا نستعجل !! فماهو مقياس النجاح لتلك الثورة حتى نضعها في القياس اعتقد انها مثل البركان حين ينفجر ويتواصل بحممه فلا يمكن إعادته وايضاً ليس في الثورات مرحلة اسمها «سكون» فهي حالة مستمرة فالسكون في الجنة فقط ! حيث لا تسمع فيها لاغية إلا قيلاً سلاماً سلاما ...إذًا المدافعة والممانعة الحاصلة الآن هي شيء طبيعي بين القادمون الجدد والذين ذهبوا مع قيام الثورة واذا نظرنا الى تاريخ الدول الاوربية مثل بريطانيا بين الاشتراكيين الفوضويين ولكن هذه الدول إستطاعت بعد حروب طويلة ان تكون حكمها وفي الحربين العالميتين الاولى والثانية اوربا فقدت قرابة المائة مليون من البشر *كيف تقرأون المستقبل لهذه الدول العربية وغيرها ؟ هذا صعب طبعاً فهنالك تحديات كبيرة جدًا لهذه الدول التي قامت فيها الثورات وكذلك التي لم تقم فيها ثورات ولكن اعتقد ان الوعي العام في صالح الاسلام وأنا لا أنظر للإسلاميين كتنظيم !! أنا أنظر إلى حركة الوعي الإسلامي بأنها في طور النمو والآن الشباب يتقدمها وليس مهماً ان تكون في تنظيم ولكن بنظري ان يكون لديك وعي بمتطلبات المرحلة، وهو ما يحدث الآن للشباب المسلم فهم الآن وعيهم الاسلامي ليس لأي تنظيم لكن مناصرتهم للإسلام كبيرة، وهم سيحققون متطلبات المرحلة وتحدياتها بوعيهم هذا .. * ماذا عن مستقبل العلاقات السودانية الأمريكية في فترة اوباما الثانية ؟ أعتقد أنه لن يتغير شيء ! وحتى الامريكان، ومسألة موالاتهم للمعارضة قد يئسوا منها وإن كانت هنالك اتصالات بهم . هذا يحيلنا الى علاقة السودان بدولة جنوب السودان بعد الانفصال والقضايا العالقة وجولات المفاوضات المارثونية كيف سيفضي كل هذا إلى علاقة جوار آمن واستقرار؟ هذا يحتاج إلى تجديد النخبة السياسية هنا وهناك في البلدين بنخبة اخرى قادرة على التواصل واختراق الزمن بقراءة المستقبل دون ترسيبات سابقة، وهذا يتطلب شجاعة وإرادة سياسة لإدارة حوار نخبوي متجدد . *حدثنا عن الترابي كمفكر سياسي وداعية إسلامية !! متى ما تحدث كان له الأثر وردود الأفعال وهو الآن صامتٌ لفترةٍ ؟ الترابي هو من أعظم المفكرين الذين أنجبتهم الحياة الفكرية السياسية السودانية، وهنالك أشخاص حتى لو لم يصبحوا رؤساء أوحكام في السودان فبفكرهم ومساهمتهم في الحياة السودانية دخلوا تاريخ السودان فالترابي دخل تاريخ السودان بجدارة واستحقاق لأنه أوصل الاسلاميين إلى السلطة السياسية !!! وأحدث كل هذا الحراك بالحركة الاسلامية، وحولها من جماعة إسلامية صغيرة لحزب كبير وقائد. ولكنه أخفق حينما لم يقرأ مطلوبات الدَّولة .. *ماذا ترى في المعارضة السودانية وهل هي تستطيع أن تقود السودان؟ أنا أعتقد أنه واقع لمخاض كبير سيحدث ! ولكن أقول إن من يجب ان يحكم السودان في المرحلة القادمة يجب ان يكون من الشباب، وفي أسوأ الأحوال من الكهول ..فالشباب طبعاً يكون أقل من الخمسين سنة في السياسة والكهل ألا يزيد من خمسة وستين سنة . *لماذا برأيك لم يجد السودان حتى الآن الوصفة السحرية لنظام يتوافق عليه الجميع رغم وجود المفكرين السياسيين والاكاديميين والإختصاصيين ؟ طبعاً إن الاختصاصيين والمهنيين من مشاكلهم انهم ليس بخريجي سياسة فهم من خريجي التخصصات الضيقة وهؤلاء يحملون الانكفاء الداخلي لتخصصهم وهذا ليس سيئاً الى درجة ما لكنه يعوق العمل السياسي لكن أهل التخصص الضيق يجب أن لا نعتقد انه اساس النادي السياسي ..فالسياسي هو من نذر نفسه للشأن العام،، وليس للتخصص الضيق مقاطعاً .هل يمكن القول بأن السياسى هزم الثقافي والاكاديمي في قيادة البلاد ؟ لا أعتقد مثل هذا !! لكن نحن في مرحلة فيها «باطن» وفيها «ظاهر» والشوكة العسكرية، ونعيم الحكم، والشعب متخلف، والنادي السياسي ضيق جدًا ولم يتوسع وحتى المؤتمر الوطني فشل في ان يكون فيه نادياً سياسياً يُخرج جملة من السياسيين أصحاب المؤهلات لفترة ما ولكن الآن النادي السياسي قد انفتح ... * في كلمات قصيرة ماهواكبر حدث في 2012م اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً في السودان؟ اقتصادياً طبعاً الحدث الأكبر والمؤثر هو الازمة الإقتصادية التي تعيشها البلاد والتي جعلت الدولار يقفز بالزانة من ثلاثة جنيهات الى سبعة جنيهات ..وسياسياً اعتبر ان الحيرة السياسية الشديدة الغائمة على فضاء المشهد السياسي السوداني ويأتي بعده إنعقاد مؤتمر الحركة الاسلامية السودانية وما أحدثه من حراك اسلامي داخلها سيكون له أثره. واما اجتماعياً ما يزعجنى ان الضائقة الاقتصادية ضربت الطبقة الوسطى في المجتمع، والمسألة الثانية حروب السودان وعدم توقفها أنهكت الجيش . *اخيرًا كيف ترى سنة 2013م على الصعيد السياسي السوداني؟ المزيد من الإنفتاح بمقياس انفتاح النادي السياسي وقبول الآخر والحراك القائم الآن، وتجاوز النكسات التي تعرض لها السودان في سياق الدروس والتجارب وارجو أن نتعلم من أخطائنا وتجاربنا..