كل بلاد الغربة عند السودانيين هي «بلاد ترك».. هذه هي الوهمة أو «الهجمة» التي أدخلها فينا إسماعيل باشا، منذ غزوته للسودان في بداية القرن التاسع عشر، وتلك (الهجمة)، ما مرقت من عصب السودانيين الحي، حتى الآن. لأهل السودان عقدة من نوع خاص مع تركيا، مع التركي، ومع (المتورك).. فمن يريد الثورة يثور ضد أساليب التتريك، ومن أراد الهجرة (من أجل نسيان الماضي) يبتغي اسطنبول.. ! ومن أراد الاستشفاء أو النقاهة فليقصد شواطئ الخلافة العثمانية، حتى عشاق الدراما وممتهني التجارة، ومثلهم أرباب المعاشات يحجون إلى أنقرة وصاحب العقل يميز -! فالتتريك على قفا من يشيل هذه الأيام، ولا يرتبط فقط بالجنايا والخفايا، من هنا جاءت تسمية السودانيين للغزو الأول ب (التركية السابقة).. التي تتبعها (الرادفة)، وهي عهد أو حقبة سياسية تمتد منذ مجيء كتشنر للخرطوم وحتى استقرار النظام على سياسة تقويم الجنيه.. كما أن التتريك، يرتبط عند أهل السودان ب (الولدة الخاسرة).. ومما يحكي في هذا، أن أحدهم سافر إلى بلاد التُرك لتلقي العلم، فلم يحصد غير الدعشنة!. ولم يعد إلى السودان إلا للتنقيص على أبيه وهو على فراش الموت..! يقال إن تلك (الولدة الخاسرة) دخلت على الأب وهو في السكرات، دخلت عليه بسيماء الدقن التي كانت رمزاً ل (ابن آوى)..! وبدلاً من أن يقرأ في ذلك المقام آيات مما أنزل الله، طفق الابن العاق في تسميع ما استحفظ من عيون المعارف الفقهية- قطعية الدلالة- فقال بصوته الجهور: «يا أبتي قل لا إله إلا الله فإنك ميت لا محالة»..! فتح الأب عينيه ليرى ولدته الخاسرة، تقف في كامل البدانة فوق رأسه، موحية بالشروع في إكمال مراسيم الانتقال للدار الآخرة.. وجد ابنه الذي انتظره لسنوات يستشرف الإرث ويستعجل الإجراءات بصوته الجهور، الذي يلتحف كل همس الحاضرين.. ابن عاق ليس وراء رحيله أو عودته، غير الأسايا.. ثم مضت (الولدة الخاسرة) تقول للأب وهو في تلك الحال: «يا أبتي قل لا إله إلا الله، فإنك لن تقوم بعد اليوم من مرقدك هذا»..! (يا أبتي والله ما منعني من القدوم اليك باكراً، إلا أنني صادفت في طريقي وليمة.. فدخلت على أهلها واعظاً لهم بحلول النِقم وزوال النِعم.. ولم أزل على ذلك الحال حتى أولموني، فأسمكت وأبلحت، ثم جئتك قاصداً تشعييك إلى مثواك الأخير). كانت الدنيا واجمة، والخرطوم في حرها الحرور، وعباد الله في صبرهم على البلواء.. ثم حانت ساعة الخلاص و(فجَّت فجَّة)، فتح خلالها الأب عينيه وقال للحاضرين «خذوه عني، فإنه- والله- أقسى علي من عزرائيل»...! ٭ إنتهت القصة، وصاحب العقل يميز...!