يؤمن النظام الربوي بأن المال يحقق الربح بمرور الزمن عليه وبحيث يمكن حساب هذا الربح بالعام والشهر واليوم والساعة.. ولهذا فإن النظام الربوي يقرر سلفاً مقدار العائد على الاستثمار دون النظر إلى طريقة وموقع هذا الاستثمار.. أما في نظر الإسلام فإن المال هو مال الله والناس مستخلفون فيه و«مديرون» له يسلمه كل واحد منهم إلى الذي يليه.. والمال في الإسلام لا يحقق الربح بمرور الزمن عليه مهما طال وإنما يتحقق الربح «بعد» اختلاط المال بالعمل والمجهود.. فهناك بعض الجوانب الأخلاقية والإيمانية المتعلقة بأمر التمويل والتي قد لا يضع بعض العاملين في القطاع المصرفي لها أي اعتبار فقط لأنهم «انحرفوا» نحو تطبيق مقررات بازل المتعلقة بمخاطر التمويل المصرفي وحفظوا لوائحها ولكنهم نسوا أن يقوموا بحفظ لوائح العمل المصرفي الإسلامي خاصة في الجانب «الأخلاقي» منه.. وها نحن نفعل ذلك فإن أصبنا فلنا أجران وإن أخطأنا فلنا أجر المحاولة.. ونقول: أولاً: نظراً لأن البنوك هي التي تملك الأموال ولأن رب المال مطلوب منه البحث عن «القوي الأمين» ولأن رب المال هو الأحرص على زيادته وتنميته خاصة إذا ما علمنا أن معظم موارد البنوك عبارة عن ودائع وأمانات تخص آخرين.. بهذا الفهم يكون البنك ملزماً بأخذ المبادرة والبحث عن العميل الممتاز والشريك المضمون.. والعملية الاستثمارية المدروسة المفيدة للشركاء وللمجتمع ولمن يدورون حول هذه الأطراف من أصحاب المهن الحرفية وهذا يعني بالضرورة ألا يقف البنك متفرجاً ومنتظراً أن يأتي إليه أصحاب الحاجات أو أصحاب المشروعات. فالمنطق يقول بأن على رئاسات البنوك أن تجهز مديري فروعها بنوع من الخرائط الاستثمارية عند بداية كل عام اعتماداً على الموقع الجغرافي للفرع والتركيبة السكانية والنشاط الاقتصادي.. فليس من المعقول أن تعمل فروع البنوك في القضارف مثلاً في شراء التلفزيونات والثلاجات والحديد والسيخ والموكيت وعليها أن ترسم خريطتها بحيث تكون أعمالها دائرة في محيط الإنتاج الزراعي المطري والإنتاج الحيواني.. ومن المؤكد أن هذا يُعتبر دوراً أخلاقياً يرتبط بتنمية المنطقة وتطوير السكان واستصحاب مفهوم التنمية القومية. ثانياً: عندما تدخل البنوك مع عملائها في اتفاقيات وعقود فهي في الحقيقة تدخل في شراكة معهم.. وهدف هذه الشراكة «الأخلاقي» هو أن تزيد من مرونة حراك المجتمع المنتج.. وأن تبحث عن الربح من خلال العمل النافع المنتج أيضاً.. وأن تتأكد أن كل عملية تنفذها قد أدت إلى فائدة اجتماعية واقتصادية تعود على المجتمع كله.. ثالثاً: غالباً ما تقتصر عائدات عمليات المرابحة على فائدة قد تعود على البنك أو على طالب المرابحة فقط ولهذا فإنها قليلاً ما تفيد المجتمع وقليلاً ما تنداح دائرة تأثيرها الإيجابية نحو الآخرين.. ذلك لأن المرابحة صيغة للتمويل الشخصي وللحاجات الشخصية.. ومهما تحوط البنك في اتخاذ الإجراءات والكوابح الشرعية إلاّ أنه سيجد أن المرابحة قد تحولت إلى عملية ربوية وهمية ذهبت لسداد ديون أخرى أو تم كسر البضاعة بأقل من ثمنها لتحقيق السيولة لأغراض أخرى وبالتالي «انهار» سوق السلعة المكسورة وارتبكت معطياتها التسويقية.. وهذا ما يحدث لأغلب السلع التي تدخل في معاملات الكسر مثل الأسمنت ومواد البناء والذي يتأرجح سعره ما بين زيادة قد تصل إلى 100% في يوم وتنخفض إلى 50% في اليوم الثاني.. وهذا يعكس تأثير الكسر في سوق «ضيق».. وهنا يأتي الدور الأخلاقي مرة أخرى في أن تكون البنوك ذاتها عبارة عن رقيب ومرشد ومؤتمن وناصح لعملائها. رابعاً: الدخول مع العملاء في استثمارات يعني بالضرورة تساوي الأدوار كما قلنا فهذا قد ساهم بماله وهذا ساهم بجهده أو جزء من هذا وجزء من ذاك.. وهذه الشراكة تخلق واقعاً يُلزم الطرفين بمراعاة الجوانب الشرعية حيث جاء في الحديث «أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما الآخر».. وحتى يظل الثلاثة حضوراً في هذه الشراكة «الله، البنك، العميل» فإنه يلزم بالضرورة أن البنك لن يخون العميل بإيداعه في السجن أو بيع ممتلكاته بثمن بخس أو إيقاف الشراكة إذا لم تحقق أهدافها الاجتماعية والإقتصادية.. وفي ذات الوقت يكون على العميل ألا يخون البنك بالتعدي على أموال الشراكة والعبث بها على أنه لن يكون ضامناً لخسارتها أو لربحها بحكم مبدأ أن «الغنم بالغرم» والذي يبذل الطرفان فيه جهداً يعادل مساهمة كل منهما في الشراكة ويتناسب مع الربح الذي يحققه أو الخسارة التي يحققها.. خامساً: على العاملين في البنوك أن يعلموا تماماً أنه بمثل ما أن هناك بيعاً اسمه المرابحة فهناك أيضاً بيع اسمه «الوضيعة».. وبيع الوضيعة هو البيع بالخسارة.. وهذا يعني بالضرورة أن على البنوك أن تفهم أنها يمكن أن تخسر في بعض الحالات وتخسر كثيراً جداً في بعضها وقد تمارس بيع الوضيعة. وهذا هو تقريباً أحد الفروق الرئيسية بين المفهوم الإسلامي الذي يرمي إلى تنمية المجتمع وتحريك عناصره الفاعلة المنتجة بصرف النظر عن حجم الربح العائد.. بينما يعمل النظام الربوي الرأسمالي على تنمية أموال الفرد دون النظر إلى قضايا تنمية البيئة والسكان.. وتسعى الشريعة إلى مقاصد لا يهتم بها الاقتصاد الرأسمالي ومنها العائد الاجتماعي المتمثل في رفع الفقر والعوز وتفتيت الثروة وتوزيعها على أوسع وأكبر عدد من الناس بينما يعمل النظام الرأسمالي على تكريس وحصر الثروة عند أقل عدد ممكن من الناشطين. سادساً: يفترض أن أي نزاع ينشأ بين البنك وعميله أن يتم حله بالتراضي والوفاق وبنفس الروح التي دخلوا بها في مبدأ الشراكة.. وبالطبع فإن حبس العملاء وتشريدهم يعطي الانطباع بأن هذه العلاقة التشاركية لم تكن أصلاً قائمة على مفهوم أخلاقي بل قد يشبهها البعض بما يعرف بالعلاقة «الكَلْبيّة» التي تبدأ وديّة ثم تنتهي «بالهَوْهَوَة والعَضْ».. وقد كان فيما نعلم سابقاً أنه في مؤخرة كل عقد من عقود المعاملات بين البنوك وعملائها بند يعرف ب«التحكيم».. وكان هذا البند يلزم الطرفين بحل النزاعات بالتراضي وبالصورة الودية.. وفي حالة عدم التوصل إلى حل رضائي يتم تعيين لجنة تحكيم يختار كل طرف محكماً واحداً ويتفق الطرفان على المحكم الثالث ليرأس لجنة التحكيم والتي تكون قراراتها نهائية وملزمة للطرفين.. وقد لاحظنا غياب هذا البند عن كل أو معظم عقود التعامل مما يؤشر إلى أن الأطراف أصلاً كانت عازمة على ممارسة «العض» واللجوء إلى المحاكم أو على الأقل كان أحد أطرافها يبيِّت النية لجرجرة الطرف الآخر.. وهنا يبرز لنا مبدأ أخلاقي آخر يمكن أن نسميه «النوايا الحسنة» وفي اعتقادي أنه ما دام أن البنك قد استكتب شريكه صكاً يعلم هو قبل غيره أنه لا يوجد فيه رصيد وأنه سيرجع للساحب فهذا يعني أنه كان يضمر «النوايا السيئة».