لا يجد المرء، في كثير من المرات، ما يغري بتتبع تبدلات الوزراء في حكومة الرئيس عمر البشير، فهي، في غالبها، عنوان لصراع يخص الأقلية الأوليغاركية الحاكمة منذ ما يقارب ربع القرن. ووجدت نفسي [مع الإعتذار من استخدام ضمير المتكلم] في مرات كثيرة أحزن للذين ساقتهم حالة الاستعمار الذهني وأسلمتهم للخطاب الإعلامي الموجه، الذي صور لهم أن الأزمة الاقتصادية، والسياسية وغيرهما من أزمات البلاد غير المنكورة، سبب منطقي لوجود فلان وعلان وفرتكان وزراء لكذا وكذا من الوزرات... الخ التحليلات غير المسؤولة، وهذه شذرات من سيرة العبث الذي انتجته هيمنة الحكومة على الإعلام والخطاب الإعلامي. وكتبت كذا مرة عن صفاقة التعويل على حل الأزمة عبر تغيير الوزراء، وقلت، مستخدماً لغة أشبه بالشعرية، إن هذه البلاد ب"بطنها الرخوة وعضلاتها الواهنة، يجرها البشير على أرض نتئة، ولن تشم رائحة العافية إن لم تُخلص منه". لكن، باعثنا على التعليق هو أمر له ما بعده، جرى في خضم لهوجة التعديل الوزاري، وهو تسمية الفاتح عز الدين رئيساً للبرلمان، والدكتور عيسى بشري نائبا له. وذلك بأمر (تعيين) من (المكتب القيادي للمؤتمر الوطني). هذا الفعل يتعارض مع الدستور الانتقالي [تعديل دوسة]، المعمول به حالياً، وبقية اللوائح المستمدة منه والمستندة عليه، [أنظر لائحة تنظيم أعمال المجلس الوطني، الفصل الثاني.. انتخاب الرئيس] وهي لائحة دستورية. وكذلك، هي من جانب ظاهر إثبات واضح و(براكسيس) عملي للخلط المريع بين حزب المؤتمر الوطني ومؤسسات الدولة. وتعني خطوة ال(تعيين)، فيما تعني، أن البشير مزق آخر صور الإنتخابات المعلقة على صالون حكومته، وكان قد فعلها قبلاً بتمزيق صور الولاة المنتخبين. أما ما ليس مطروقًا، أو مبحوثًا، بالدَّرجة التي يستحقُّها هو أمرٌ آخر متعلِّقٌ بطبيعة التعديل ككل، فإنه يمثل إنقلاباً عسكرياً ناعماً قاده البشير ليتخلص من طاقمه المدني القوي، وفي مقدمتهم نائبه الأوّل علي عثمان، وعوض أحمد الجاز، وأتي بنائب عسكري هو بكري حسن صالح، مع الاحتفاظ بشخصية عسكرية أخرى هي عبد الرحيم محمد حسين في وزارة الدفاع، إضافة إلى تطعيم هذان العسكريان بشخصيات أخرى ضعيفة وليست ذات تأثير على مجريات القرار السياسي في البلاد، وستوفر له، على الأقل، وجهاً مدنياً لحكومته، وربَّما توضِّح لنا النَّتائج في المستقبل أنَّ هذا كلَّه يمثل عودةً إلى الخلف في صورة مشابهة لفحوى صراع الإسلاميين ومفاصلتهم الشهيرة، حين أغلق البشير البرلمان وعلق العمل بالدستور في 1999م. ثمة مراقبون، منهم المحلل السياسي المحنك عبد الله رزق، ينظرون إلى إبعاد طه والجاز ك"استكمال لتصفية الصف الأوّل من الإسلاميين، الذين ظلوا أعضاء دائمين فى فريق 89. يقابله من الجهة الثانية، صعود الفريق أوّل بكري حسن صالح، ليحل محل علي عثمان، نائبا أوّل لرئيس الجمهورية، بعد توليه مهمة نائب أمين عام الحركة الإسلامية... ثم انتخابه، مؤخراً،عضواً بالمكتب القيادي للمؤتمر الوطني،". فاقصاء آخر فوج من الحرس القديم، يعني بالنسبة لرزق "استكمال المفاصلة التى تمت فى ديسمبر 1999، وتحرر النظام نهائيا من وصاية الجبهة الإسلامية، ومن اجندتها، والتزاماتها الايديولوجية والسياسية....". وبكل تأكيد ثمة صراع داخلي، يخص الحزب والحكومة، هو الذي دفع البشير لإتخاذ هذه الخطوة الإنقلابية غير المعلنة، فمنْذ إنفصال الجنوب في العام 2011م وتبعاته السِّياسية والنفسية والاقتصادية، غير الحميدة، وكذلك حراك (الثورات العربية) وتأثيراتها المتوقعة على السودان، وجد قلة من حزب المؤتمر الوطني الحاكم أن حزبهم بحاجة إلى مراجعة رؤاه، وتغيير خطته في إدارة البلاد، حتى يتمكن من إشراك آخرين في الحكم، ولو بشكل ديكوري، وذلك كخطوة إستباقية لربيع الثورات العربية. وكانت خلفية المراجعة تشير إلى الجدل السياسي والاقتصادي القائم، الذي يسِم الحكومة بالفساد تارةً، وقلّة الخبرة في حلحلة الأزمات السياسية بغير اللغة الأمنية، ممّا خلق؛ على حد زعم أصحاب الرؤى الإصلاحية "واقعاً سياسياً وحياتياً يكتنفه الضيق ويهدّد بنسف ما تبقى من خارطة البلاد". وظهرت إثر ذلك مبادرات داخلية، تطورت غبّ إنسداد الطريق أمامها، إلى مذكرات اصلاحية أو اجتجاجية، مثل مذكرة (الألف أخ) التي تناولتها الصحف ووسائل الإعلام باستفاضة إنزعج لها الرئيس البشير، وتوعدها بالحسم في مقابلة تلفزيونية بثتها ثلاث محطات في آن واحد. وبدورها مهدت مذكرة (الألف أخ) لافتتاح بيت للضرار داخل المؤتمر الوطني على غرار ما انفتح في الأعوام الأولي لانقلاب الإنقاذ بين الرئيس البشير وعراب الإنقلاب وزعيم الحركة الإسلامية الدكتور حسن الترابي، حتى بلغ اتّساعه في ما عُرِف بفسطاطي (القصر) و(المنشية) كنتيجة حتميّة للصراعات. وفي خضم تلاطم الشعارات التي تنادي بمراجعة نهج الحكومة والمؤتمر الوطني ظهرت جماعة (سائحون) وهي مجموعة من شباب الحركة الإسلامية الذين انتسبوا في وقت سابق للتشكيلات العسكرية التي حاربت في جنوب السودان. تبع ظهور سائحون في تراتبه الزمني رغبة قيادات داخل تنظيم المؤتمر الوطني تغيير الوضع عبر إنقلاب عسكري فاشل أُتهم فيه مدير المخابرات السابق صلاح قوش مع عسكريين آخرين داخل الخدمة العسكرية. بعد ذلك وُوجهت الحكومة بموجة تظاهرات احتجاجية واسعة في (23 سبتمبر) تندد بسياسات الحكومة الاقتصادية، لكن الحكومة قمعتها بشكل مستفز. هذا القمع وفر للقيادي بالحزب الدكتور غازي صلاح الدين مبرر لكتابة وتبني مذكرة جديدة للاصلاح، سميت إعلاميا ب(مذكرة ال31). أراد أصحابها التعجيل بإحداث تغيير استباقي، وإجراء ترميم على علاقات الحكومة السياسية والأمنيّة والاجتماعيّة، قبل أن يحدث التغيير بصورة قسريّة تنتهي بتجربة الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني إلى نهاية مأساوية، ما يعني بعبارة أخرى ضياع فرصتهم في الحكم وإلى الأبد.!! وفيما يتعلق بغازي تحديداً ينبغي الإشارة إلى أنه مكث طويلاً في مضمار المطالبة بالاصلاح، منذ أن قدم ورقته ذائعة الصيت بين يدي ندوة (صعود الإسلاميين: دلالاته ومآلاته) في يناير 2012م. قال غازي وقتها " يتعين على الإسلاميين الانتقال فوراً من الشعارات إلى العمل من أجل تقديم إجابات على أسئلة: الديموقراطية، الحقوق، المرأة، الطوائف، الأقليات، الاقتصاد، العلاقات الدولية. وتجنب الخطاب الجدلي والمواجهات الفقهية المكرورة والبعيدة عن الحياة الحقيقية". ويضيف ".... الضمان الأقوى لبقاء المد الاسلامي هو أن يرسخ الاسلاميون أنفسهم بالتعاون مع الآخر، نظاماً ديمقراطياً يؤمن بالحرية للناس كلهم. ويقيم العدل ويفتح أبواب الخيارات واسعة لكل صاحب فكرة". ثم يختم باسئلة ملحة مفادها: "هل يعي الاسلاميون دروس التاريخ؟ أم أن دورتهم في قيادة الشعوب ستكون تكراراً للاخفاق الذي سلكه كثيرون قبلهم"؟. بالطبع، لم يكن غازي يقصد ب(الكثيرون) شخص غير عمر البشير وطاقم حكومته. وها هو البشير: لن يعد نفسه واحدٌ منكم بعد اليوم. [email protected]