الحزب الشيوعي يطالب بالعدالة ووقف الحرب    هل يصل الذهب إلى 100 ألف دولار؟    برئاسة البرهان .. مجلس الأمن والدفاع يعقد اجتماعه ويطمئن على الوضع الأمني بالبلاد    تجيبها كده تجيبها كده.. هي كدة..!!    كاس العرب بدون حكام سودانيين    تعرف على غرة شهر رمضان فلكياً 1447 ه    ترتيب لانطلاق إعداد المنتخب الرديف بكسلا    الطاهر ساتي يكتب: البيان التاريخي ..!!    الجيش يعلن عن انتصارات جديدة في الفاشر    علماء يكتشفون فوائد جديدة للقهوة    ترامب يهدد باستبعاد بوسطن من استضافة مباريات كأس العالم    عثمان ميرغني يكتب: البرهان في القاهرة..    عناوين الصحف السياسية السودانية الصادرة اليوم الخميس 16 أكتوبر2025    تمديد فترة التقديم لشواغر القبول بمؤسسات التعليم العالي غير الحكومية    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الخميس16 أكتوبر2025    رسمياً.. هلال كوستي يبرم تعاقداته مع حمدتو و"فار"    التعادل يؤجل فرحة البرتغال بالتأهل    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنانة إيمان الشريف تحيي حفل غنائي بالسودان وتحصل على "نقطة" طائلة من العريس    شاهد بالفيديو.. بعد الوقفة القوية للسودانيين بأوغندا وخارجها.. إستلام جثمان الفنان الراحل علي كايرو من المستشفى بعد سداد مبلغ 6 ألف دولار    محل اتهام!!    "الصمت الرقمي".. ماذا يقول علماء النفس عن التصفح دون تفاعل؟    شريف الفحيل: تهديد جمال فرفور سبب مغادرتي السودان وتقديمي اللجوء في كندا    رحيل علي «كايرو».. نهاية حكاية فنان أثار الجدل وكسب القلوب    في مشهد مؤثر.. أحمد الصادق يغني لأول مرة مع شقيقه حسين على مسرح    شاهد بالفيديو.. هتفوا (الجماعة طاروا).. سودانيون بالدوحة يخرجون في مسيرات فرح احتفالاً بفوز "قطر" على "الإمارات" وتأهلها لكأس العالم    السودان يدعو العرب لدعم إعادة تعافي القطاع الزراعي في الاجتماع الوزاري المشترك الثالث بالقاهرة    بنك الخرطوم يعيد تشغيل فرع الكلاكلة: إيذانًا بعودة الحياة الاقتصادية    راقبت تعليقاتهم على مواقع التواصل.. إدارة ترامب تفاجئ 6 أجانب    قبل صدام الكونغو الديمقراطية.. تصريحات صادمة لمدرب منتخب السودان    وفاة صحفي سوداني    قرارات مهمة لنادي الهلال السوداني    لجنة أمن ولاية نهر النيل: القبض على مطلق النار بمستشفى عطبرة والحادثة عرضية    تعيين محافظ جديد لبنك السودان    ترامب: أميركا مع السيسي دائما    شاهد بالفيديو.. الفنانة هبة جبرة تهاجم الناشطة "ماما كوكي": (تسببتي في طلاقي وخربتي بيتي..ما تعمليني موضوع وتلوكيني لبانة وشريف الفحيل دفعتي)    تقرير الموارد المعدنية: 909 ملايين دولار حصيلة الصادرات    ترامب : أنجزنا المستحيل والدول العربية والإسلامية شركاء في السلام    الفنان علي كايرو يكتب رسالة مؤثرة من سرير المرض: (اتعلمت الدرس وراجعت نفسي وقررت أكون سبب في الخير مش في الأذى وشكراً الشعب السوداني العظيم) والجمهور: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)    قوات الطوف المشترك شرق النيل تدك اوكار الجريمة بدائرة الإختصاص وتوقف (56) أجنبي وعدد من المتهمين    حاج ماجد سوار يكتب: كيف يكتمل تفكيك المليشيا (1)    انا والسياسة الاقتصادية والكورنة    وزير المعادن يترأس اجتماع مناقشة الخطة الاستراتيجية لتأمين المعادن ومكافحة التهريب    هكذا جرت أكاذيب رئيس الوزراء!    احبط تهريب أخطر شحنة مخدرات    جريمة اغتصاب "طفلة" تهز "الأبيض"    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    وزير الصحة يشارك في تدشين الإطار الإقليمي للقضاء على التهاب السحايا بحلول عام 2030    حادث مرورى لوفد الشباب والرياضة    عملية أمنية محكمة في السودان تسفر عن ضبطية خطيرة    السودان..محكمة تفصل في البلاغ"2926″    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    الاقصاء: آفة العقل السياسي السوداني    ضبط شخص بالإسكندرية ينصب على المواطنين بزعم قدرته على العلاج الروحاني    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعادة تصنيف التنظيمات السياسية السودانية وِفقَ جدليَّة الظلام والنُور (2)
نشر في الراكوبة يوم 01 - 11 - 2016

سيطَرت الجبهة الإسلامية على الحُكمِ فى السودان عبر انقلاب 30 يونيو 1989م ودآنَ لها السُلطةَ والثروة وجهاز الدولة، فإستخدمت المال والجبروت لبسطِ قواعد لتحالفات تنظيمية جديدة تهدفُ أساساً إلى تدميرِ المجتمع السودانى وإذلال إنسانه وتجهيله، وهدمِ الأحزاب والتنظيمات القديمة (الطائفية) والحلول محلِّها. وللقضاءِ على الحزبِ الشيوعى السودانى غريم الجبهة الإسلامية ومحور نضالها فى السودان.
وقد تشاكسَ الحزبُ الشيوعى السودانى والجبهة الإسلامية سياسياً، ودخلاً فى معارك بلا إلتزام ب "قواعدِ الفُرسان"، وفجَرَا فى الخصومةِ السياسية، وأدخلا العُنفَ فى المُمارسةِ السياسية، وأسّسا لظاهِرةِ الإنقلابات العسكرية سبيلاً للوصول إلى السُلطة، فعطَّلا التطور الطبيعى للعمل السياسى الذى يتّسِمُ بالتبادُلِ السلمِى للسلطة عبر وسائل وآلياتٍ سلمية، لأنَّ الحزبان لا يؤمِنانِ بالديمقراطية ولا بالتداول السلمى للسلطةِ كما سنتناولُ فى الجزءِ الثالث.
وفى الجزءِ الأوَّل إجتهدنا فى إظهارِ قواعد وادوات ومناهج الصراع السياسى بين فئتين هما الظلاميِّن وأهل الأستنارة، أو جدليَّة الظلام والنور. وقلنا أنَّ الجبهة الإسلامية القومية التى نفّذت إنقلاب (الإنقاذ) 89 كرّست لمبدأ نزعِ السُلطة غِلاباً من حكومةٍ مُنتخبَة.
وإقترنَ إنقلاب يونيو 89 أيضاً بحقيقةِ كيف أنَّ رئيسَ وُزرَاء حكومة مُنتخبة ديمقراطياً كان على عِلمٍ يقِين بوقوعهِ!.. بل أنَّ الإنقلابيون أتوه وتحدّثُوا إليه مُباشرةّ بأنَّهم سينقلبون على حكومتهِ المُنتخبة فى غضونِ الأيام القليلة القادمة، وطلبوا منه أنْ يشارِكَهم فى الإنقلاب على حكومته المنتخبة!. ولكنَّ معالِى رئيس الوزراء رفض مشاركتهم الإنقلاب أو فى حكومةٍ أتت عبره. ولكنَّهُ لم يمنعهم أو يستنكرَ على الإنقلابيين "المُحتملين" الذين كانوا يجلسون إليه، ما يزمعون!.
لم يقل لهم رئيس الوزراء المُنتخب أنكم تزمعون وتخططون لإرتكاب جريمة عظمى ضد السودان هى تعطيل دستور البلاد والإطاحة بحكومةٍ منتخبة من الشعب ومصادرة الحريات وإعلان أحكام عُرفية، والتنكِيل بالشعبِ السودانى.
رئيس الوزراء المُنتخب لم تحدِّثهُ نفسه بالقيامِ بما قامَ به رئيس تركيا رجب طيب أردوغان لإحباطِ انقلابٍ عسكرى هذا العام.. فوقع إنقلاب يونيو 89 وضاع بلداً كان إسمه السودان. ورئيسُ وزراء السودان المُنتخب ما زال لا يرى أنَّ الذى وقعَ فى 30 يونيو 1989م وآقِعة، ولا يهتمُ بكيف صار السودان إثر وقعتِها هَباءً مُنْبَثّا.. لا يرى رئيس وُزرَاء السودان المنتخب 1986م أن ما وقعَ من زوج اخته وبمباركتهِ الشخصيّة جُرمَاً ولا يحزَنون.
ويجب أن نُثبِّتَ ما نلاحِظه ونؤمنُ به بوضوحِ وللتأريخ: نقولُ لو كان إقدامُ الجبهة الإسلامية على تنفيذِ إنقلاب يونيو 89 على حكومةٍ مُنتخبة من الشعب السودانى تُشَكِّل جريمة عُظمى فى حَقِّ الشعب السودانى، فإن معرفة رئيس الحكومة المنتخبة بحتميةِ وقوع الإنقلاب وعدم مقاومتهِ، بل وإخفاءِه عن الشعب السودانى الذى إنتخبه. وسكوته ثمَّ إختباءِهِ عند وقوع الإنقلاب، وعدم إتخاذهِ أيَّة إجراءاتٍ لحمايةِ البلد ومقدِّراتهِ وحكومتهِ المُنتخبة من عُدوانٍ حالٍّ و وَشِيك الوقوع لا مُحَالة، تُعتبرُ تلك السلبيةُ أيضاً جريمةُ عظمى.. فلو كان وقوع الإنقلاب جريمة بإتيانِ الفعل Commission فإنَّ الإمتناعَ عن المقاومة والمناهضة وإعلانِ النفير والحشد الجماهيرى لحمايةِ البلد ومُكتسباتهِ أيضاً جريمة بنفس القدرِ والمستوى بسببِ الإمتناعِ عن القيامِ بالواجبِ Omission.
وكان أول من دفعَ ثمن وُقُوعِ الإنقلاب على مستوى حزبه هو رئيس الوزراء الذى إنقلبَت الجبهة الإسلامية على حكومتهِ فى يونيو 89، عندما قسَّمُوا حزْبَهُ أيدى سبَأْ فى يوليو2002م بُعيدَ عودة الحزب من الخارجِ (أسمرا)، بعد أن خذّلوا "التجمُّع الوطنى الديمقراطى المعارض" الذى كان يشغلُ فيه حزب الأمَّة منصبُ الأمين العام (مبارك الفاضل).. رَكلَ حزبُ الأمّة التجمُّع الوطنى الديمُقراطى، وعادَ إلى السودان فى عمليةِ (تهتدُونَ) عبر وساطةَ رئيس دولة جيبوتى.
وفى يوليو 2002م خرج من حزبِ الأمة القومى مجموعة من كادِر الحزب يُمثِّل أكثر من ثلاثة اجيالٍ تربّوُا فى كنَفِ الحزب، وإكتسبُوا المعارِفَ وتدرّبُوا وتراكمت لديهم الخِبرِّات ما أهْلَّهُم ليكونوا جاهزِينَ لقيادةِ السودان، ذهبوا فى حركةِ الإصلاحِ والتجِديد.
والذى يستهِينُ بحركةِ الإصلاح والتجديد فى حزبِ الأمَّةِ، ولا يأخذ بعِبرِها ودَواعِيها إنما لا يريدُ أن يعرفَ الحقيقة أو لا يريد الإعتراف بها. وأكرر هو اكبر انشقاق يحدث لتنظيم سياسى فى السودان فى تاريخه الحديث. وأكبر من مفاصلة 12 ديسمبر 1999م الموافق 4 رمضان 1240ه داخل حكومة الإنقاذ إثر مذكرة العشرة 4/8/1999م التى قادت إلى المفاصلة فإنقسم الإنقاذ إلى حزبين، المؤتمر الوطنى والشعبى، وتقع أيَّة مقارنة مع الفارق.
كما يجب تسجيل حقيقة أنَّ الذينَ إنشقوا من حزبِ الأمة القومى فى حركةِ الإصلاح والتجديد لم يندمجوا فى حزب الحكومة (المؤتمر الوطنى) بل تمسَّكُوا بحقِّهم فى أن يكونوا حزب أمَّة.. ويجب أن يكون حزب الأمّة وكل الأحزاب السودانية مِلكية عامّة وشائعة للشعب السودانى وأن لا تكون (حواكير) يحملُ شهادات مِلكيتها الأسياد الكهنة وأولادهم وبناتهم، يوزِعون صُكوك بحقوقِ "إرتفاق" ومنح منافع ضئيلة للأتباع والأعضاء.. واسوأ ما فى العمل السياسى فى السودان ان الزعماءَ الظلاميِّين يستخدمون قواعد إشتباك الظلام مع من يختلف معهم فى الرأىِ أو الرؤية وسرعان ما يتخلصون من المخالفين لهم بالإقالة والرفت ويواصلون فى طُغيانِهم يعمهُون.
وتتمظهرُ قِمَّة الظلامية فى عدمِ تحمُّلِ الرأى الآخر وان لا يُرِى زعيم الحزب أو التنظيم أتباعه إلَّا ما يَرَى، وهل يرى من يعيشُ فى الظلامِ ويكرَهُ النور ويُنكِرهُ؟. فينتصرُ المستنيرون ويذهبون لحالِ سبيلهم منتصرين لمبادئهم وكرامتهم التنظيمية والثورية.
لذلك تجد العشرات من الأحزابِ والتنظيمات السودانية الآن تمارس نشاطها تحت إسم الحزب الذى انشقَّت منه بعد إنقلاب 89 وبمعاونة من حكومة (الإنقاذ).
فى تفتيت وتخريب المجتمع السياسى السودان يمارس أهل الإنقاذ عملاً يشبه ما يقال أنَّ عتّال بطيخ "حريف" تم تسجيله حارس مرمى فى فريق كرة قدم، فاحسن الإمساك بالكرة المُصوبة نحو مرماه فصفّق له الجمهور، ولكنه سرعان ما قذف بها دآخِل مرماه!. (الكيزان) يفعلون بالأحزاب والحركات السودانية نفس الشىء.
ولم تسلمْ من التقسيم والتفتيت وِفقَ جدلية الظلامِ والنور حركات المُسلَّحة التى قامت فى هوامشِ السودان، دفعها سوء القيادة وتشجيع حكومة الإنقاذ التى تُبدِّد موارد الدولة وسُلطَانِها فى تفكيكِ كل التنظيمات السياسية، سلمية أو مسلحة، بسبب حقدٍ قديم ثُمَّ إلصاقِها بالمحيط الخارجى لحكومتها ومنحِها بعض الهبات والوظائف الهامشية التى لا تؤثر فى اتخاذ القرار، وهنا يأتى ميكانيزم (ترميز التضليل) كأحد أدوات المركز فى جدلية المركز والهامش.
والشاهد أنَّ كل الأحزاب والحركات التى إنسلخت من أصُولِها ودخلت صرح السلطة لم تندمج فى حزب الجبهة الإسلامية بشِقِّيه، المؤتمر الوطنى أو الشعبى!. ويعنى هذا، فى نظرى المُتواضِع، أنّ الذين إنسلخوا من كُلِّ التنظيمات السياسية، سلمية ومدنية، طوال العقود الثلاثة لحُكمِ (الإنقاذ) هم المستنيرين فى تلك الإحزاب والحركات، وأنَّ الأجزاء الهرِمَة التى فضلت بعد خُروج النوّار هم الظلاميين من تلك الأحزاب والحركات. وهُم الأقرب، شكلاً ومضموناً من أحزابِ الجبهة الإسلامية.
ومشاركة الأحزاب/ الحركات المنشقة فى حُكمِ السودان وفق برامج مع أحزاب (الإنقاذ) ليس أكثر عيباً من البقاءِ تحت سطوةِ الكهنوت وهيمنة الظلام الذى خرجوا منه. وأنّ وجودَ الخيرِ فى ساحةٍ يغلبُ عليها الشر والفساد مُهم جدّاً، وأنّ الخيرَ حتماً سيسُودُ يوماً، ولو طالَ مُكوثُ الشرّ على وجهِ الأرض.
وأضرب مثلاً لذلك بمُطالبةِ نوَّاب حزب المؤتمر الوطنى فى البرلمان القومى بإشراك عدد (5) وزراء من الحزبِ الشيوعى فى الحكومة القادمة لضمانِ النزاهة ونظافة اليد ولجمِ الفساد وأكل المال العام، سبحان الله!!. وهذا يعنى أنّ (الكوز) لا يستطيع أن يفطِمَ نفسه ويلْجِمُها من شهوتى البطنِ والفرجِ، ومن أكلِ المال العام والسحت. لا يقرأونَ الحديث الشريف: (لو كان هذا فى غيرِ هذا كان خير).
لكن الأهمّ فى هذا الأمر هو: أنَّ الجبهةَ الإسلامية التى نفّذت إنقلاب يونيو 89 وسيطرت على السلطة والثروة فى السودان واستخدمتهما فى تفكيك السودان وفى بعثرةِ الأحزاب الطائفية الكبيرة، الأمة والإتحادى، قادَتُها ليسوا من أبناء المركز! بمعنى أنّ الجبهة الإسلامية ليست تنظيم مركز، ولا هو تنظيم هامش، هو تنظيم (مستورد) غير وطنى قادِم من خارجِ الحدود، لا يرحمُ المركز ولا يكْرِمُ الهامش، تنظيم حاقِد وإعصَارى مُدَمِّر لا يبقى ولا يذر. كائن عقائدى عالمى لا يؤمن بالدول ولا الحكومات، وهنا يكمُن خطر الجبهة الإسلامية التى أتت بإنقلاب يونيو 89.
هذا التنظيم لا يؤمِنُ بالوطن ولا بشعبه، والوطن هو التأريخ والجغرافيا والديموغرافيا، هو التراب الذى ضمّ عظام الأجداد، والشجر الذى شرِبَ عرَقَهم، الوطن هو الفكر والكُتب والعادات والتقاليد والقِيم. والجبهة الإسلامية (الإنقاذ) لا تؤمن بالوطن ولذلك ضيَّعته.
والغلاةُ الشِداد الذين نفّذوا الإنقلاب 89 وحكموا أول الأمر ليس منهم إبن مركز معلوم أو إبن ريفٍ معلوم، جُلّهم من قاعِ مجتمعات السودان فى الريف والحضر!.. المستنيرين الأسوِياء العدول من أبناءِ السودان ينتمون عادة للأحزاب التقليدية الطائفية، الأمة والإتحادى، وأميز أبناء السودان هُم الذين يتّبعون الطرق الصوفية وفى مقدِّمتهم أتباع الفكر الجمهورى الذى أقام أركانه الأستاذ الشهيد محمود محمد طه. وأبناء الطبقة الوسطى أصحاب الياقات البيضاء كانوا ينتمون للحزب الشيوعى السودانى وإلى الناصرية والبعث،.أمّا (الكيزان) فهم الحاقدون على المجتمع السودانى وقام تنظيمهم بهدف الإنتقام من السودان وشعبه وقد تمكنوا من ذلك تماماً.
وللريف السودانى مُدن معروفة كانت وستظل ترفِد المركز بأفضل أبناءها مشاعل الإستنارةِ والمعرفة والنبوغ. وأعضاء الجبهة الإسلامية هؤلاء مجموعة من البؤساء المنبتِّن ينتمون إلى اللامكان فى السودان لذلك ألغوا كافة قواعد وجدليات الصراع فى المجتمعات، وينمازون بغِلظة الطِباع ويضمرون للمجتمع السودانى شرّاً، ويخشون الإستنارة والمدنية والتحضٌّر، ويكرهون حتّى ذواتهم ويعيشون فى عالمٍ خيالى إفتراضى أفلَ منذُ عشرات القرون، جاءوا إلينا بليل بهِيم وقد غَنّى مطربهم: صُروف المنايا بأسيافنا، نزيق العدو بأسنا.. وتغنوا ورقصوا وهللوا وكبّرُوا: أمريكا روسيا قد دنَا عذابها، عليّ إن لاقيتُها ضِرابُها!!.
الآن ينبطِحُون لأمريكا يقولون لها "هيتَ لك" وأمريكا تقول لهم: "إنى أخافُ اللهَ رب العالمين".
وامّا روسيا فقد تحوّلت الجبهة الإسلامية بحزبيها بقدرة قادر إلى حليف إستراتيجى لروسيا ماركس ولينين، بينما الحزب الشيوعى السودانى الذى قضى (الكيزان) عمرهم فى محاربته صار أقرب إلى واشنطون من موسكو التى تركها للجبهة الإسلامية! والصين الشيوعية الحمراء هى الآن حامية حِمَى دولة الخِلافة الراشدة فى السودان!.. والسياسة فى السودان تصِيبُ الإنسان بالحوَل (الحوَص). تطلُب "صحن فول" وتأكُل "كبْدَة" الجنبَك.
وعليه، أرى أنَّ (الكيزان) الذين إنقلبوا على الحكومة المنتخبة فى يونيو 89 ودمّرُوا الأحزاب التى كانت تحكُم السودان من المركز ليسوا من مركز السودان ولا من هامشه، هم تنظيم كالنبت الشيطانى عديم المثل Unique وبذرَتهُ مُستجلبة من خارج السودان، ونبت ونما وترعرع فى غفلة من تنظيمات المركز التى كانت مُنكفِأة على نفسِها تُمارِسُ خليطاً من الطقوسِ الدينية والسياسية ومشغولة بالتوريث والإمامة مما اضعف العمل السياسى فى السودان بالجمع بين القداسة والسياسة. وفى هذا المناخ السياسى الوخيم ترعرع شجرة (المسكيت) الجبهة الإسلامية وانقضت على السلطة فى يونيو 89 ثُمَّ أزاق السودان وشعبه الأمرَّيِن.
وهناك تنظيمان إستشعَرَا باكِراً الخطر القادم إلى السودان مع الجبهة الإسلامية وقاومَاها ما إستطاعَا، وحذّرَا من خطرِها وشرِّها، هُمَا الجمهوريِّين والحزب الشيوعى.. أمّا بقية التنظيمات والأحزاب السياسية فكانوا نيام إلى أنْ فتكَ الداءُ بجسدِ الوطن، وبلغت القلوبُ الترَاقِى.
أقرأ ما خطّه قلم الأستاذ العالِم شهيد الرأى محمود محمد طه فى كلمةٍ له نُشرت بجريدة (أنباء السودان) يوم 6/12/1958م جاء فيها:
(دعاة الفكرة الإسلامية فى هذا البلد كثيرون، ولكنهم غير جادين، فهم لا يعكفون على الدرسِ والفِكر، وإنما ينصرفون إلى الجماهير، يلهِبُونَ حماسهم، ويستغلون عواطفهم، ويجمعونهم حولهم بغية السير بهم إلى ما يظنُّونه جهلاً دستوراً إسلامياً.. وهم إنما ينصرفون عن الدرسِ والفكر، ظنّاً منهم أن الفكرةَ الإسلامية موجودة ومبَوَّبة ومفصَّلة، لا تحتاج إلى عملٍ مستأنف ولا إلى رأىٍ جديد.. فلسْتُ أريدُ أن أشُقَّ على أحدٍ من دعاةِ الفكرة الإسلامية، فإن أكثرَهم أصدقائي، ولكن لا بُدَّ أقرر أنَّ فى عملِهم خطراً عظيماً على الإسلامِ وعلى سلامةِ هذا البلد.. ثم يجب أن نعرفَ جيِّداً أن الإسلامَ بقدر ما هو قوة خلّاقة خيِّرة إذا ما انبعثَ من معينِه الصافي، واتصل بالعقُولِ الحُرَّة وأشعلَ فيها ثورتهُ وانطلاقهُ، بقدرِ ما هو قوَّةٌ هدَّامَة اذا ما انبعَثَ من كُدْرَةِ النفوسِ الغَثّة، وأثارَ فيها سَخَائِمِ التعصُّبِ والهوَس.. فإذا ما قُدِّرَ لدُعاةِ الإسلام الذين أعرفهم جيّدِاً، أن يطبِّقُوا الدستور الاسلامى الذى يعرفونه هُم، ويظنونه إسلامياً، لرجَعُوا بهذه البلاد خطوات عديداتٍ إلى الورَاءِ، ولأفقَدُوها حتى هذا التقَدّم البسيط، الذى حصلت عليه فى عهودِ الاستعمار، ولبَدَى الإسلام على يديهم، كأنَّهُ حدودٌ، وعقوبات، على نحو ما هو مُطَبَّقٌ فى بعضِ البلادِ الاسلامية، ولكانوا بذلك نَكْبَةً على هذه البلاد، وعلى الدعوةِ الاسلامية أيضَاً).
فجاءت الجبهة الإسلامية التى عنَاها الأستاذ محمود محمد طه وقد طبّقت على السودان الدستور الإسلامى الذى يعرفونه هُم، ويظنونه إسلامياً، فكانوا نكْبَةً على هذه البلاد وعلى الدعوة الإسلامية أيضاً، فليَنمْ الأستاذ الشهيد فى سلام.
(نواصلُ فى جزءٍ ثالث، تصنيف الحزب الشيوعى وبقية أرباب العقائد)
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.