طرقات خفيفة على باب الشقة الصغيرة التي كانت تحويني مع أفراد أسرتي..الذين لم يفرغوا من التهام أسماك النيل ظنوا ان الطارق ضيفا تأخر عن وليمة العشاء الأخير..تجمعنا أخوة وأصدقاء لوداع أخي الأكبر عصام الذي كان مسافرا للسعودية في صباح اليوم التالي ..شقيقتي الصغرى هدى كانت الأقرب الى الباب..عادت الشقيقة مستغربة وأخبرتنا ان غرباء بالباب يطلبون الظافر ..نظرت الى الساعة وكانت قد تخطت الحادية عشر مساء. اشهر اوسطهم بطاقة عسكرية باسم الملازم محمد عبدالله ..ثم شرح لي مهمتهم العاجلة التي تقتضي التحقيق معي في بعض الوقائع..كان قائد المجموعة الرباعية لطيفا حينما اخبرني ان بإمكاني ان أقود عربتي الحكومية ثم العودة بها لاحقا ..حينما هبطت الى الطابق الأرضي من البناية وجدت عربتين من ذوات (الكامري) في انتظاري..كانت تلك تجربة الاعتقال الأولى ..قدت عربتي المتهالكة التي تتبع لجامعة الخرطوم ووجدت نفسي بين عربتين..نسيت ان أخبركم ان اثنان من المجموعة ركبا معي في السيارة لتقديرات ستعرفونها لاحقا. بعد ان تجاوزت طلمبة حجازي في شارع الصحافة زلط طلب مني الرجل الذي على يميني التوقف..ظننت في البداية ان العربة التي تتعقبنا قد تاهت..بعد ان اوقفت العربة جاءت تعليمات جافة يتبعها تهديد بمسدس .. زادت هواجسي وشعرت أنني بت بين يدي عصابة..بعدها تم ترحيلي الى السيارة الثانية وتولى أحدهم قيادة عربتي..في السيارة الفارهة والمظللة تم وضع عصابة بيضاء على بصري..تحركت السيارة في عدد من الاتجاهات ..جاءني إحساس أنها عبرت جسر الإنقاذ الجديد المؤدي لام درمان. بعيد نحو أربعين دقيقة تزيد أو تقل قليلا سمعت باب حديدي يفتح..بعدها تم إغلاق الباب بأحكام ..تم رفع الغطاء عن اعيني بعد ان دخلت الى غرفة بها منضدة بلاستيكية وكرسي بلاستيك ..دخل علي شابان لا زلت احتفظ بملامحهما..اما أحدهم فقد ربط يدي الى الوراء وشداهما بوثاق..خرج الشابان وجاء على اثرهما آخران اوسعاني ضربا بخرطوش اسود وشتما بلسان متخصص في الاساءات..الحقيقة ان الضرب على شدته كان يتفادى الرأس والوجه ويركز على الأماكن المكسوة بالشحم واللحم..حينما فقدت القدرة على الصمود سقطت أرضا غارقا في دمائي..انتهى دور الجلادين وخرجوا من الحلبة . جاء شاب اخر يلوم أولئك القساة ويذكرهم عن ماضي الفقير الى الله في خدمة المشروع الحضاري..فك الرجل وثاقي واحضر كوب من الماء البارد..ثم بدا يحقق معي عن قوائم للمؤتمر الشعبي في أواسط الطلاب ..وعن أصول تتمثل في سيارات تم إخفاءها ..وعن نشاطي السابق في لجنة راب الصدع بعيد المفاصلة..قبيل الفجر انتهى التحقيق القاسي..اخبرني الرجل الذي أخذ أقوالي انه تم الإفراج عني واعتقال عربتي الحكومية..حينما ارتفع صوتي بالاحتجاج اكد لي الرجل أنهم سيتصلون بالبروفسور ابراهيم غندور والذي كان يشغل وقتها منصب وكيل جامعة الخرطوم للتأكد ان العربة تتبع لجامعة الخرطوم. بعدها بدأت رحلة العودة ..تم وضع عصابة أخرى على بصري بعد ان جلست في المقعد الخلفي للسيارة الفارهة..ذات الرحلة الغامضة بين أرجاء العاصمة..أخيرا انتهينا الى مكان هاد.. تم أنزالي وإذا بي في مقابر موحشة..تبينت لاحقا أنها مقابر فاروق..أصحاب الرحلة هددوني بالتصفية ان سردت واقعة الاختطاف والتعذيب. المفاجاة ان كل ذلك السيناريو المخيف لم تنفذه أجهزة الدولة الرسمية..البطولة الكاملة كانت لميلشيا طلابية تدير مكتبا في الخرطوم (2) باسم امن الطلاب..الاسم المشفر لذاك المكان البيت الأصفر . سردنا هذه القصة الواقعية لان أبن الحكومة البار محمد عبدالقادر كتب في الراي العام يصف ذلك الحدث الذي حدث في فبراير 2001 بمجرد شكلة في المقابر..اللهم اغفر لنا ولهم . (التيار) [email protected]