(تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    "الآلاف يفرون من السودان يومياً".. الأمم المتحدة تؤكد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    السعودية أكثر الدول حرصا على استقرار السودان    الفاشر.. هل تعبد الطريق الى جدة؟!!    الخارجيةترد على انكار وزير خارجية تشاد دعم بلاده للمليشيا الارهابية    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وانطفأ القنديل.. سعاد إبراهيم أحمد.. عاشت كالنخلة شموخاً وعطاءً
نشر في الراكوبة يوم 11 - 03 - 2015

مثل النخيل الصامد على ضفاف النيل ليحرس تلك الأرض والتاريخ والجزر النيلية المتناثرة، كرست سعاد إبراهيم أحمد حياتها للدفاع عن حق النوبيين في الحياة وفي الاحتفاظ بتاريخهم وإرثهم، ولاقتلاع حقوق المرأة السودانية وترسيخها في ظل دولة ديمقراطية ومجتمع ديمقراطي، والعمل على نشر الوعي وإتاحة التعليم والمعرفة للشباب بكل ما تملك وما لا تملك.
عاشت سعاد حياتها، كنخلة في بلادي تعطي وتقدم بلا منّ ولا أذى، مؤمنة بما تفعل وجريئة في اقتحام معاقل الظلم والجهل، وبشجاعة حد الموت في مواجهة القمع والمنع والتخويف حتى رحلت عن دنيانا في التاسع والعشرين من ديسمبر "2013"م.
خرطومية النشأة رغم أنها سليلة أسرة نوبية عريقة ترجع أصولها لحلفا القديمة، التي كانت تزورها في الإجازات الرسمية بعد مولدها في "1935"م بمدينة "أم درمان"، وذلك لعمل والدها أستاذاً في كلية الهندسة التابعة لكلية غردون التذكارية، ولما تفتحت عيناها على الحياة وجدت نفسها بنتا بين ثلاثة أولاد صلاح، محمود، وكمال، والدها المهندس إبراهيم أحمد الذي كان عضواً بمجلس الحاكم إبان الفترة الانتقالية وزيراً للمالية بعد الاستقلال حتى انقلاب عبود، أما والدتها فهي عشة صُفرة تمانيا من منطقة "دغيم" بحلفا القديمة، عشقت السياسة وتغلغلت في روحها وهي ابنة ال"5" سنوات، هي الصدق الوفاء المرأة الرءوم الشجاعة المصادمة الحنون.. هي الأم الأخت والصديقة هي سعاد الخير والأمن والطمأنينة من يدخل بيتها مرة فلابد أن يرجع له مراراً وتكراراً.
التعليم الأولي
درست الروضة والكتاب والوسطى بمدرسة الراهبات، وعندما حان وقت امتحانات الوسطى آثرت والدتها انضمامها الى المدارس الحكومية فماذا فعلت؟، قالت ناهد محمد بُر بنت اخت زوجها التي نشأت في بيت الراحلة سعاد واحتضنتها وأصبحت أمها التي لم تلدها، قالت: عندما أرادت حاجة صُفرة والدة ماما سعاد تحويلها إلى مدرسة حكومية لأن مدارس الراهبات آنذاك كان تدرس العلوم التجارية فقط، وكانت ترغب في إدخال سعاد الجامعة، أخذتها مباشرة إلى مديرة مدرسة أم درمان الوسطى خواجيه اسمها كلارك، وبعد مداولات دارت بين كلارك وصُفرة استطاعت بما تحمله من قوة وحضور وقدرات قيادية إقناعها بأن تدخل ابنتها الامتحانات التي مضى على بدايتها يوم كامل لاقتناعها بشطارة بنتها ونباهتها، تابعت ناهد: بالفعل اجتازت ماما سعاد الامتحانات بنجاح وتحققت رغبة والدتها وانضمت لمدرسة أم درمان الثانوية في عام "1949"م وكانت بذلك أول دفعة قبلت في أول مدرسة ثانوية حكومية للبنات" زاملتها سعاد علام ومحاسن فروج وفاطمة عبدالكريم وفتحية فضل التي لم تنه علاقتهنّ بالرغم من عدم ولوجها العمل السياسي.
نضال منذ الصغر
نشطت سعاد في تلك الفترة وكانت لها مبادرات عديدة أبرزها تحرير جريدة حائطية باسم "الرائدة" حول حقوق المرأة، وكتبت في الصحف السودانية باسم مستعار، وقادت أول إضراب نسائي بالسودان، كان فاتحة انخراطها في النضال السياسي، أكدت ناهد ذلك وقالت: قادت ماما سعاد الإضراب اثناء دراستها في المدرسة الثانوية، وطالبت فيه بعدم حذف مقررات المواد العلمية واستبدالها بمادة التدبير المنزلي والخياطة، وكان إضراباً ناجحاً بعد موافقة الناظرةعلى مطالبهن، لفتت ناهد إلى أن سعاد عاشت في كنف أسرة ديمقراطية لدرجة إن والدها لم يعارضها عندما صارحته بعدم رغبتها في دخول الجامعة، إلا أن أخاها محمود لم يرض ذلك وناقشها حتى وافقت والتحقت في "1955"م بكلية الإحصاء جامعة الخرطوم، ولما لم تجد هناك جمعية للثقافة والتمثيل الذي تحبه وكانت تمارسه في الثانوية، وأنشأت الجمعية بعد إعلانها في "بورد" الجامعة لاجتماع عام لإنشاء الجمعية، الذي وجد رواجاً واسعاً وقبولاً وسط الطلاب.
قصة الزواج
كانت سعاد تخاف من فكرة الزواج، و"رفضت عددا من الزيجات الممكنة" قبل حامد الأنصاري الذي كانت صديقة شقيقه الأصغر قريب الله الذي كان يدرس في الدفعة التي تسبقها في الجامعة، أضافت ناهد أن: غريب الله خالي كان صديقها ومعجبا بها جداً، وفي ذلك الوقت كان أغلب الشيوعيين لا يرغبون الزواج من شيوعيات بحسب ما فهمت، لكنه رشحها لأخيه حامد الذي يكبره بسنتين، وبعد أن حدثها قريب الله عن حامد وافقت على مقابلته دون تردد، ولما تمت المقابلة كانت النتيجة إيجابية، وقالت لي رحمها الله "دخل لي في راسي"، وبالرغم أنها لم تكن كبيرة لكنها كانت مستعجلة على الزواج وكانت تسأل باستمرار عن مواعيد الزفاف بحسب ما روت لي، وتم الزواج، وكان ذلك في اليوم الذي أعلنت فيه حكومة اكتوبر "1964"م ، وكانت مخضبة اليدين والأرجل وكانت لا تحب ما تفعله النساء في هذا الشأن، وأول ما سمعت بذلك قلعت الحنة ومشت رغم انها عروس وكانت تلك التصرفات غريبة ولا يقبلها المجتمع آنذاك، وفي "1968"م أنجبت ابنها أحمد.
مصلحة الإحصاء
عقب تخرج سعاد في جامعة الخرطوم عام "1958"م ولجت سعاد سوق العمل وعينت في مصلحة الإحصاء التي انتدبتها للعمل كمفتش بمدينة حلفا، لكنها فُصلت من العمل بعد قيادتها للمظاهرات التي تندد بقيام السد العالي في "1959"م وتم اعتقالها تبعا لذلك، قالت ناهد إن: ماما سعاد لم يهدأ بالها لدى علمها بتهجير أهالي حلفا بغرض بناء السد العالي وقامت بتحريض النساء وخرجت في مظاهرة كانت قائدتها، ولما رمى أفراد الشرطة عليهم "البُنبان" تساءلت السيدات ما هذا الشيء قالت لهم "ما أكعب من البصل، أصبروا"، بعدها تم اعتقالها وكان ذلك أول اعتقال لها، وفصلت من العمل وتم إرجاعها الى الخرطوم، وتابعت: بعدها مباشرة سافرت إلى أمريكا في "1961"م لنيل الماجستير، وعقب عودتها عملت أستاذة في جامعة الخرطوم وأسست كلية الدراسات الإضافية، ولما ارادت خوض انتخابات أبريل "1985" كمرشحة للحزب الشيوعي كان لابد من أن تستقيل كشرط لدخول الانتخابات، لكنها لم تفز.
وانطفأ القنديل" سعاد إبراهيم أحمد.. أدوار تاريخية ومواقف وطنية 2- 3
الخرطوم – زهرة عكاشة
لم تعرف سعاد طيلة حياتها طريق الحزب الشيوعي، وحتى بعد دخولها الجامعة لم تفكر في الانضمام للحزب مباشرة، وتم ذلك وهي في السنة الثانية وكانت من أوائل النساء اللواتي التحقن بالحزب آنذاك، وتقلدت عدة مناصب فيه، حتى صارت عضوة باللجنة المركزية، تحملت السجون والاعتقالات والملاحقات المستمرة جراء موقفها الواضح من النظام الحاكم.
حكت ناهد: بعد أن دخلت سعاد الجامعة وضعت جل اهتمامها في النشاطيْن الثقافي والاجتماعي، ولما شارفت سنتها الثانية انضمت للحزب الشيوعي في مارس (1957)م، ودخلت اللجنة المركزية في أكتوبر (1967)، وكانت تربطها علاقة وطيدة بفاطمة أحمد إبراهيم وفاطمة بابكر وزوجها محمد سليمان ونعمات مالك لم تنقطع علاقتها بهم إلى الرمق الأخير.
دكتوراه لم تكتمل
سافرت سعاد إلى بريطانيا في (1976)م، ومكثت في مدينة (ستون) جنوب لندن وفي (1977)م انتقلت إلى مدينة (برايتون) التي قضت فيها عامين لإعداد رسالة الدكتوراه، وبعد الانتهاء من البحث قررت عدم مناقشتها وعادت في (1981)م، ومن وراء هذه السفرية قصة، فقد تم ترتيب بين زوجها حامد الأنصاري والحزب لإبعادها عن السودان لفترة بسبب الاعتقالات المتكررة التي تعرضت لها، فتم إقناعها بالسفر مع الأولاد لقضاء الإجازة وتلقيهم كورسات في اللغة الإنجليزية، وبعد وصولها هناك تم إبلاغها بالحقيقة، وبأنها ستبقى هناك لحين، وعرض عليها التحضير لنيل الدكتوراه، وهو ما لم يحدث رغم إعدادها للرسالة لأنها لم تكن تعتقد أن الحصول على الدكتوراه شيء مهم، وكانت تقول "الزول ما بقيموه بشهادته وإنما يقيم بتفكيره لذلك لم تكن مبسوطة من فكرة السفر".
الصبر على الشدائد
"سعاد تستحق التأبين وأكثر من ذلك، ليس فقط على مستوى ضيق، وإنما كان يجب أن يتم على مستوى الدولة"، هكذا بدأت صديقة سعاد ورفيقة دربها نعمات مالك حديثها. وتابعت: سعاد بالنسبة ليّ ليست مجرد صديقة، بل تعني الثقافة، العلم، الصديق الصدوق والإبداع، والشجاعة وهي من تعلمت منها الكثير ونهلت من بحور علمها الواسع وفي كافة المجالات، لم يقف الأمر مع سعاد عند الثقافة والعلم فقط، فقد استطاعت رحمها الله بروحها الطيبة وحسن معشرها أن تغير من سلوكي في التعامل مع الآخرين، صمت برهة ثم قالت: الحديث عن سعاد يطول لكن يمكنني أن أقول إنها معطاءة تعطي بلا حدود وبحكم علاقتي الوطيدة بها، كنت أذهب إليها يوم الخميس من كل أسبوع نتفاكر في الأمور أنهل من علمها فهي موسعة، وفي إحدى الأيام قالت لي "أديني يوم تاني مع الخميس"، فكنت انتهز أي فرصة خلال الأسبوع وأذهب إليها، كانت صبورة تصبر على الشدائد والمصاب، فقد صبرت على مرضها صبراً كبيراً لم تشتك وهي في أحلك حالتها المرضية، وعندما يشتد مرضها يخبرني عبدالله أحد العاملين بمنزلها بهذا الأمر، وأذهب على الفور، وكل من يعرف سعاد أو يعمل معها لا يتركها أبداً ويظل متواصل معها، وأذكر في تأبينها الأول تحدث أحد الذين دخلوا منزل بغرض تخليص بعض الأعمال، فقد كان يعمل بشركتهم، وكان له موقف ضد الشيوعيين، وقال كان ليّ موقفاً من الشيوعيين ورأي واضح فيهم، لكن ما إن دخلت منزل سعاد غيرت فكرتي عنهم تماماً، وأضاف مازحاً: "الكركدي البتقدموا لضيوفها ده التقول فيه محاية". وتابعت ضاحكة: "سعاد كانت تحب الكركدي وأي شخص يدخل منزلها لابد أن يشربه، كانت تقول ناس الحكومة رفعوا ضغط الناس والبجيني الكركدي بينزل ضغطه".
شخصية مؤثرة
وقالت نعمات إن سعاد شخصية مؤثرة جداً، ولها حضور ووجود كبير جداً، وذات هيبة وسطوة، فضلاً عن أنها شخصية حازمة وجادة وصامدة، إلا أنها أصبحت سريعة الانفعال بعد أن كبر سنها واشتد عليها المرض، في الأشياء التي تراها خطأً ويجب تصويبها، وكان ذلك من منطلق حرصها على الأشياء، وعندما تحس أن انفعالها كان زائداً تضمك إلى صدرها بحنية معتذرة عن ما بدر منها، فقد كانت حنونه لدرجة كبيرة، وتحب مساعدة الآخرين، فقد كان بيتها لا يخلو من طلبة الجامعات والدراسات العليا الذين تساعدهم في إجراء بحوثهم باختيار المراجع المطلوبة ومراجعة كتاباتهم إذا رغبوا في ذلك، وطبعها لهم في نهاية الأمر، وهناك أشياء كثيرة لا أعلمها كانت تقوم بها.
امرأة قنوعة
وأضافت نعمات أن سعاد كانت امرأة قنوعة، ومهما احتاجت لا تطلب المساعدة من أحد، وكنا عندما نذهب إليها ونلاحظ أو نحس أنها مريضة نتصل بطبيها عبدالقادر هلال، وإذا لم يحتج الأمر للطبيب أذهب الصيدلية وأتى لها بالعلاج، في الوقت الذي تريد فيه مساعدة الغير رغم احتياجها، وكانت سعاد واضحة وضوح مُخل، وقالت: يمكن أن تحرج من هذا الوضوح، وحكت نعمات "ذات مرة دخلت منزلها ووجدته مليئ بالناس، وكان أحدهم يجلس في الكرسي الذي اعتدت الجلوس فيه ما أن رأتني قالت له قوم ده كرسي نعمات"، حيث أنني كنت عندما أذهب إلى مكان باستمرار اختار مكاناً ارتاح فيه وأجلس فيه كل ما اتيته، بسيطة وكريمة لا تحس معها أنها تفوقك وضعاً اجتماعياً، وفي أوقات الوجبات أياً كانت تصر على من معها البقاء وتناول الوجبة معها، وكانت تقول للطباخين "ختوا الأكل في صحوني ما صحون حامد الأنصاري"، وهذا لأن زوج سعاد كان رجل أعمال ويحب الأكل في أطباق معينة، لا تروق لها فتنتهز فرصة عدم وجوده وتقدم الطعام في الأطباق العادية التي تحبها، وكانت تقول أن "بيتي ما بتقفل"، وفعلاً كان منزلها قبلة للغاشي والماشي لا يغلق بابها إلا عند نومها.
قوة وشموخ
لم ألاقي إلى الآن أحداً مثل سعاد، رجلاً أو امرأة، لم أجد أحداً متجرداً وناكراً لذاته مثلها، كانت قليلة الأكل والشرب، حتى بعد أن اشتد مرضها، فقلت لها هذا يضر بصحتك يجب أن تشربي وبعد إصرار على معرفة سبب ذلك قالت ليّ لا أريد أن أتعب وأزعج من معي في المنزل بذهابي إلى المرحاض مرراً، لذلك أقلل من شراب الماء أو أي شيء، فكانت تفضل راحة الآخرين على راحتها.
نساء من بلادي" سعاد إبراهيم أحمد.. امرأة حملت مشاعل المعرفة 3 - 3
الخرطوم – زهرة عكاشة
وسعاد أول امرأة اعتقلت ودخلت السجن وأول اعتقال لها أيام الهجمة على الحزب الشيوعي، وحكت نعمات أن سعاد عندما دخلت السجن، وطلبت من إدارته أدوات نظافة غسلت بها حمامات السجن، وكانت تقوم بذلك كل يوم، ولما رأت السجينات ذلك، بدأوا أيضاً في التنظيف معها، فسجن النساء كان واحداً وليس هناك مكان محدد للسجينات السياسيات، مثل الحال الماثل الآن، وكانت سعاد أول سجينة أو معتقلة سياسية، فقد كان عليها الرحمة صوتها عالياً في الحق والدفاع عن مبادئها.
وقالت كانت لا تخاف ولا تهاب منسوبي جهاز الأمن الذين يأتون من وقت لآخر لاعتقالها أو تفتيش المنزل، وما إن تراهم كانت تقول لهم "انتو جيتو يا كوارث"، ولما يحاول أحدهم رفع ورقة من الأوراق التي أمامها تضع يدها عليها، وتقول لهم بصرامة وحِدة، لن تأخذ أي ورقة منها، لكن إذا أردت نسخة أصورها لك لكن تأخذ هذه فلا لا.
ما أكعب من البصل
عندما شغلت سعاد منصب مفتش بمصلحة الإحصاء بحلفا قادت العديد من المظاهرات هناك، وكان الأمر حينها غير معهوداً، فليس هناك امرأة تقوم بأعمال كهذه، وحكت ذات مرة أن "قوات الشرطة أطلقت عليهم (البنبان) في إحدى التظاهرات، وتساءلت النساء عن هذا الشيء الذي يسيل الدموع، قالت لهم مشجعة بالرطانة "اصبروا ما أكعب من البصل". ولما توالت أعمال سعاد التي اعتبروها مهددة للحياة هناك، أُرجعت إلى الخرطوم، بعدها أثرت السفر إلى بريطانيا لمواصلة دراستها العليا، ولما نالت الماجستير في العام (1960)م، رجعت الخرطوم لتصل ما انقطع من نضال.
سجن أم درمان
اعتقلت سعاد عدة مرات، لكن سجنت بسجن أم درمان لفترة ليست بالقصيرة في عهد الرئيس الراحل نميري إبان انقلاب هاشم العطا في (1971)م، وخلال فترة حبسها قادت اعتصاماً دام قرابة ال (21) يوماً، مع النساء داخل السجن ولم يفك الاعتصام إلا بعد تنفيذ كل مطالبهم، فقد كانت عليها الرحمة امرأة صنديدة قوية لا تخور عزيمتها.
تفانٍ وشجاعة
حكت نعمات موقفاً يدل على التفاني في العمل والشجاعة، وما تؤمن به تصل آخره، وقالت: في أحد الاعتقالات المنزلية التي تعرضنا لها أستطعت أن أهرب من أعين الحراس الموجودين أمام المنزل لضمان عدم خروجي وإبقائي في المنزل. وذهبت إلى منزل سعاد ووقتها كانت تقيم في منزل والدها حتى نتفاكر في الأمر ونتدارس.. جاءت أمها عليها الرحمة، وقالت لنا "انتو حزبكم ده ما بيديش معاش، حتى في هذه الظروف ما بيديش معاش"، أيضاً روت لها سعاد أن والدتها كانت شديدة الانزعاج عليها من كثرة الاعتقالات، فقالت لها والدتها "الله يبارك ترب فاروق مسكت واحدة"، فقد كان لسعاد أخت توفت في الصغر، فكانت تخاف على سعاد شديد.
نوبكين
كتبت كثيراً عن التعليم والحزب وأخيراً ركزت مع السدود وكانت كثيرة الاهتمام بالنوبيين في فترتها الأخيرة ومشاكلهم واهتمت باللغة النوبية وأنشأت مركزاً للدراسات النوبية بالقاهرة والسودان لتعليم اللغة النوبية للصغار، ويختص بكافة شؤون النوبة، لكن لم يفتتح فرع السودان حتى وفاتها، أصدرت جريدة شهرية باسم (نوبكين) كانت تطبع على ورق أبيض وتنزل على الشبكة العنكبوتية، كتبت سعاد في مقدمة كتاب (السد العالي ومأسات النوبيين) للكاتب مصطفى محمد طاهر التي جاءت بعنوان (نحن والطوفان) "إن صدور هذا الكتاب وفي هذا الوقت بالتحديد ربما يكون صدفة تاريخ، غير أن نشره الآن يكتسب مدلولات مهمة بسبب الظروف التي يعيشها النوبيون في الوقت الراهن، لأن الأرض العريقة أصبحت مهددة بالاندثار للأبد تحت مياه الخزانات باسم التنمية".
ماركسية حقيقية
التقت فاطمة بابكر صديقة الراحلة سعاد إبراهيم أحمد لأول مرة في منزلها عندما كانت طالبة بالمرحلة الثانوية ودعا الحزب قياداته على مستوى المدارس الثانوية، وقالت فاطمة: التقيت سعاد لأول مرة في عام (1964)م من خلال الاجتماع الذي عقد بمنزلها، وكان يضم قيادات الحزب في الثانويات، وكانت وقتها طالبة بمدرسة الخرطوم الثانوية، وسعاد أستاذة بجامعة الخرطوم، وعروساً زفت في وقت قريب للأستاذ حامد الأنصاري، أول انطباع أخذته عن شخصيتها في ذلك اليوم أنها ليست امرأة تقليدية ولا تشبه النساء القابعات في المنازل، وأن الحناء التي علمت فيما بعد أنها خضبت بها رغماً عنها لمجرد أنها بروتوكول وشكليات لا تتجانس مع شخصيتها.
كفاح مستمر
كانت تعاني من (الرمتويد) وليس له علاج، ولما تمكن منها المرض أصبحت تطبع بابهاميها غير أنها أضحت لا تستطيع المشي بعد أن بتر جزء كبير من أقدامها، بالإضافة إلى الالتهاب الرئوي الذي أصابها بسبب التدخين الذي تعلمته وهي كبيرة، ولذلك قصة تستحق أنت تروى، ففي عام (1977) أُجريت عملية توسعة شرايين لزوجها ومنع من التدخين، لكنه أبى الامتثال لأمر الأطباء، ولما رأت إصراره على التدخين حاولت إثناءه عن ذلك، ففكرت بتهديده بالتدخين إذا لم يتركه، فاشترت صندوق سجائر، وقالت له أنت تدخن وأنا أدخن أيضاً، ولأنه ديمقراطي قال لها "على كيفك".
نهاية حزينة
توفيت سعاد بمستشفى فضيل بعد أن نقلت إليه من مستشفى تُقى بأم درمان الذي رفضت الذهاب إليه بادئ الأمر، وظل د. عبدالقادر هلال يقنعها، ولما كان الأمر حتمياً رهنت ذهابها بحضور ابنتها ناهد. وقالت له "لن أذهب إلا بعد حضور بتي"، وبالمستشفى كانت قلقة لا تريد البقاء، لكن فجأة دخلت في غيبوبة، ولما كان لابد من إجراء عملية غسل كلى نقلت إلى فضيل وتم ذلك واستقرت حالتها بحسب الأطباء، لكنها توفيت بعد خمسة أيام
اليوم التالي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.