بعد قليل لن يضطر الجنوبيون إلى المرور عبر صالة الحج والعمرة ذات السقف المتصدع والاجراءات المتجهمة وهم في طريقهم إلى مدنهم الكبيرة، لسبب بسيط، لانهم لن يسلكوا سبيل السفريات الداخلية كما هو حالهم الآن، إذ سيصيرون ناساً حالهم زين، فإن شاءت لهم الظروف الذهاب إلى أو الاياب من، الخرطوم، فسيتجهون الى صالتي الوصول والمغادرة المحترمتين نسبياً في مطار الخرطوم الدولي. : هكذا كنت افكر وانا اصارع الصبر وأغالطه بعبارات من شاكلة متى سينفصل الشماليون عن السفريات الداخلية والى متى سيكون حالهم مثل حالي والمسافرين، فجر التاسع من يناير، نصل إلى المطار في الثالثة فجراً ولا نغادره إلا عند السادسة وعشر دقائق صباحاً وبعد ان نغادره نظل نلعق الصبر مع الطائرة الانتنوف 26 لمدة ثلاث ساعات، تصم ماكيناتها أذاننا وتزحف كالسلحفاء في ارتفاع متضعضع وتهددنا في كل ثانية بالسقوط. على كل حال وصلنا إلى حاضرة غرب بحر الغزال واو فوجدنا المدينة مشغولة عنا بأمورها ومستغرقة في شأنها. تخويف وتخوين: ولما لم يكن من أحد في انتظاري، فالصحيفة بعثت بناء في معية انفسنا وفي رفقة الحدث التاريخي، أخذت ركشة ودقشت المدينة طالباً دار مفوضية الاستفتاء وبدلاً من ان يأخذني سائق الركشة إلى رئاسة المفوضية ذهب إلى مكتب مفوضية مقاطعة واو، هنالك التقيت رئيس اللجنة الفرعية بيتر ليكاردو الذي اخبرني انهم يديرون 53 مركزاً 32 منها داخل المدينة و21 خارجها ثم دعمني بوصف مقر المفوضية الأم، فأخذت مجدداً وسيلة النقل العام المتاحة في المدينة، الركشة وهذه المرة اختلف أمران تكلفة المشوار واتجاه الحديث، فبينما دفعت للمرة الأولى لمسافة لا تتجاوز الثلاثة كيلو مترات، عشرين جنيهاً دفعت في الثانية عشر جنيهات لنفس المسافة تقريباً، وربما تتضح الصورة من خلال الامر الثاني، اتجاه الحديث، سائق الركشة الاول رمضان، كان يحدثني عن مخاوفهم من الوافدين من الخلاء كما يقول ويعني المنتمين للحركة الشعبية، ويقول انهم ينظرون إليهم شذراً ويتهمونهم بالخيانة لعدم مفارقتهم المدينة إبان فترة الحرب ويعبر بأكثر من طريقة عن خوفه من المستقبل، أما الثاني أجاك فينطلق بثقة ويحدثني عن سعر الوقود الذي سينخفض بمجرد حيازة الجنوب على نصيبه كاملاً من البترول وحين اواجهه بمخاوف رمضان يقول هؤلاء خونة ولا مكان لهم معنا، فانقده ماله وأغادره أمام باب المفوضية ويملأني احساس بانقسام حاد في مجتمع واو. مسيحيون ومسلمون: يطلعني رئيس اللجنة العليا للاستفتاء بولاية غرب بحر الغزال وول ماروت شال على مافاتني بفعل الانتنوف 26 ويقول ان ضربة البداية كانت عند الثامنة والربع بمدرسة صن دي وافترعها حاكم الولاية العميد رزق زكريا حسن وتلاه كبير رجال الدين المسيحي في ذات المركز بينما اقترع كبير رجال الدين الاسلامي الشيخ الطيب اكيج بمركز حي كريش ويقول مادوت انهم طافوا برفقة الوالي 11 مركزاً داخل واو وقفوا خلالها على احوال الناخبين وسير العملية الانتخابية التي جرت كما هو متوقع بحسبه، فقد اعدوا عدتهم واكملوا استعداداتهم قبل وقت معقول ، ويقول انهم في اللجنة العليا سهروا حتى صباح اليوم الاخير يطمئنون على وصول المعينات اللوجستية والفنية لكل المراكز وتم لهم ما ارادوا كما يقول. اذا عرف السبب: في تطوافي على المراكز الاحظ اقبالا حقيقيا على الاقتراع «ومن رأى ليس كمن سمع» وكنت اسمع ان النتيجة معدة سلفا لا تحتاج الى تدافع، ولكنني افاجأ بصفوف المواطنين في مركز حي فلاته «نادي الغزالة» تكاد تصل شارع الاسفلت على بعد 06 مترا وحيث استطلع آراء بعضهم يقولون انهم يريدون نيل شرف اليوم الاول، ويحيرني لال ماطوك الذي وجدته يقف بعيدا بانه سيصوت لاحقا نتيجة هذا التدافع ويقول ان البعض دافعهم للاقبال على التصويت الاسراع في اعلان دولتهم الجديدة. وحين اجيبه بالسؤال ألست مستعجلا قيامها، يجيبني «انا مطمئن لقيامها» ويضيف «سأصوت في اليوم التالي او الذي يليه». اما ابرام لونيوك فقد امتنع عمدا عن التصويت ويشرح موقفه بالقول ان اليوم هو الاحد وهو يوم الكنيسة ويوم الكنيسة مقدس. ويتحسر على انه لن يشارك في اليوم الاول ولكنه يقرأ معزيا لنفسه الآية من الانجيل «اذكر يوم الرب واقدسه». مشاعر الفرح تحت السيطرة مما لفت نظري الانتشار الكثيف لقوات الامن بمختلف مسمياتها في كل زاوية وشارع ومركز، ومن المصاعب التي تعرضت لها ان حاول احد افراد الاستخبارات منعي من تصوير احد المراكز وناخبيه بالكاميرا، فما ان توجهت صوب الركشة حتى استأذنني بالذهاب معه الى غرفة قصية في المركز ، ولكن ما ان جلسنا علي كرسيين متقابلين حتى ادركه ثلاثة من ذوي الرتب الاعلى منه واخبروه انني اخذت تصريحا بالتصوير من رئيس المركز، ودعوني لابراز بطاقة المفوضية والبطاقة الصحفية له ، فما كان منه الا ان اعتذر وقال (كل منا يؤدي دوره هنا) ،ولكن ليس هذا مربط السؤال وانما هو (لماذا هذا الحشد العسكري بكل فروعه)، الاجابة اجدها عند لال ماطوك (سيطرة علي مشاعر الفرح لتحقيق دولة جنوب السودان)، ويقول ان الغالبية سيذهبون للتصويت وتسبقهم زغاريد الفرح والاحتفال داخل نفوسهم وخارجها وتخشى حكومة الجنوب ان ينفجر هذا الفرح او يذهب في غير موضعه. المراقبون حاضرون إلا العرب: في الطائرة انتبه الى الخواجة ذي الشعر المرسل يقرأ في اوراق ، قلت لعله مراقب، وحين اسأل رئيس المفوضية عن المراقبين الذين وصلوا اليهم يقول انهم 700 مراقب محلي يمثلون منظمات المجتمع المدني و 500 مراقب يمثلون الاحزاب السياسية و 15 مراقبا يمثلون الاتحاد الاوربي ودول الايقاد ومنظمات الاممالمتحدة ومركز كارتر، ويشير الى ان الغائبين عن بحر الغزال هم مراقبو جامعة الدول العربية ومجلس الاحزاب الخرطومية. البارات مغلقة: اخبرتني الشابة اللطيفة بعد ان ناولتني كوب شاي متبل ان البار الذي الى جوارها اغلقته السلطات لمدة 7 ايام هي فترة الاقتراع، ولما لم اكن رأيت بارا عن قرب، ففي رحلتي الى دول جنوب شرق آسيا الاسلامية، تباع الخمور في السوبر ماركت. قررت ان ارى ما هناك فدلفت الى المكان المغلق وجدته اقرب الى الاندية في وصف كتاب الطيب محمد الطيب جامع التراث الشعبي، فقط تحول البنمبر الى كرسي، ولكنها نفسها راكوبة القش والحصير المتراص، تتوسطها ترابيز اعلى قليلا من المعدل، وفي اليسار الاقصى عنقريب مشبوح بالبلاسيتك بدل الماشرو، ستجلس عليه بعد اسبوع سيدة وخطها الشيب والى يمينها قناني البيرة ام جمل وقد لا يغالط احد ان حكومة الجنوب قررت ان البيرة التي حرف البعض لها اغنية النعام (يا سلام يا الشيك ابو جمل) كي تتوافق معها ، قدرت انها ستنطلق ان صرح عنانه.