المفاجأة الفريدة التي حملها تشكيل الحكومة السودانية الجديدة هو ذلك الكم الهائل من الوزراء ووزراء الدولة بالحكومة الاتحادية التي بلغت حقائبها خمس وثلاثون حقيبة وزارية بينما تعدى وزراء الدولة الأربعين وزيراً وهي الحكومة الأضخم في تاريخ السودان الحديث إذ لم تتجاوز حكومة السودنة وإعلان الاستقلال العشرين حقيبة حتى تضمن دستور 1956م، تحديداً لعدد الحقائب الوزارية بينما وصل عدد وزراء الحكومة الجديدة إلى سبعة وسبعين وزيراً هذا بخلاف حكومات الولايات الخمسة والعشرين التي شكلت للسودان جيشاً جراراً من المستوزرين والمتمتعين بالمناصب الدستورية . ومن المفارقات أن ينجح المحتل الأجنبي في إدارة مستعمرة السودان قرابة الستين عاماً وتسيير دولاب الحياة فيه مثل عقرب الساعة وذلك بفضل تقليص الظل الإداري إلى الحد الأدنى فكانت حكومة الاحتلال تتكون من خمسة أعضاء كبار ممثلين في الحاكم العام والمفتش العام والسكرتير الإداري والسكرتير المالي والسكرتير القضائي بالإضافة لمديري المصالح الحكومية ومديري المديريات . . وظل المحتل الأجنبي حريصاً على ألا تزيد مصروفات السودان عن إيراداته المالية لذا كان لكل مشروع أقامه المحتل بدءاً من السكة حديد وانتهاء بمشروع الجزيرة إدارته الصارمة ومردوده الاقتصادي الكبير وعائده المجزي على المحتل . واستطاع المحتل الأجنبي أن يؤسس لخدمة مدنية مثالية من خريجي المدارس الأولية والوسطى والثانوية ورثتها الحكومات الوطنية ولم تحافظ على نظامها الإداري المحكم . . فمثلاً مصلحة المعارف تحولت في العهد الوطني إلى وزارة للتربية والتعليم ثم انقسمت إلى وزارتين للتعليم العام والتعليم العالي ثم تم إضافة وزارة للعلوم والتكنولوجيا وهكذا تلاشت مصالح حكومية مهمة كالمخازن والمهمات والأشغال والنقل الميكانيكي وتبعثرت بين الوزارات المختلفة في عصر الخصخصة وخصخضة الاقتصاد الوطني «والرشوشة» بمال الدولة السايب والمهدر بشتى أنواع التعديات على الخزينة العامة نتيجة لتراخي المساءلة والمحاسبة وانعدام الشفافية في إدارة الشأن العام . وأمام الحكومة الجديدة ذات التشكيل العريض مهام جسام واستحقاقات وطنية كبيرة تتطلب قدراً من الانسجام والتعاون والتفاهم بين مكوناتها لتمضي عجلة الشراكة إلى غاياتها الوطنية المنشودة وتحقيق ما فيه مصلحة الوطن والمواطنين، ولعل خير معين على تدارك ما انقضى من زمن في الاتفاق على تشكيل الحكومة العتيدة هو عمل الوزارات على مدار الأربعة والعشرين ساعة بحيث يدير الوزير الأصيل الوزارة نهاراً بينما يتفرغ وزراء الدولة لأمر وزاراتهم ليلاً وبهذا ستنجز كل وزارة العديد من المهام الموضوعة على جدول أعمالها وسيجد كل مواطن من يلبي طلبه ويقضي مصالحه وتنتهي بالتالي منجزات موظفي «تعال بكرة» من قاموس السودانيين . . وحينها ستنضم الخرطوم إلى ركب العواصم العالمية الكبرى التي لا تنام ولا تعرف التثاؤب . . ومن عهد حكومة السودنة الأولى إلى حكومة الاستفتاء يا قلب لا تحزن على الوقت والمال المهدر .