د. رفعت السعيد (1) يأتى الفارق أساساً من تناول النص [قرآنا وسنة] وكيفية فهمه والتعامل معه. وعندما قال على بن أبى طالب «القرآن لا ينطق وهو مكتوب وإنما ينطق به البشر وهو حمَّال أوجه» كان يمنحنا على مدى الدهور رخصة الفهم الصحيح للتعامل مع النص ورخصة التأويل وحق الاختلاف. واختيار قضية المرأة ليس صدفة فالموقف منها كان دوما معياراً لمدى التقدم والتخلف. ونبدأ برفاعة الطهطاوى المحرر الأول للمرأة فهو يعتبرها مسؤولة عن «تشكيل العقول البشرية» وغايتها «إيجاد ملكة تحفز على التخلق بحسن الأخلاق وتربيته على الأفعال المحمودة عقلا وشرعا» و«التعليم واجب للذكور والإناث» وفى الحديث «طلب العلم واجب على كل مسلم». وفى «اللغة تسرى على الرجال والنساء» وفى «جرمانيا وكل أوروبا التعليم حق للفتيان والفتيات ولهذا تقدمت على كل الأمم» «والتعليم سيمكن المرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال ما يتعاطاه الرجال» و«العمل يصون المرأة عما لا يليق بها، ويقربها من الفضيلة، والبطالة مذمة فى حق النساء فالعمل يصونها عما لا يليق بها» [المرشد والأمين للبنات والبنين] و«إن احترام النساء عند قوم يكثر أدبهم وظرافتهم، وعدم توفية النساء حقوقهن دليل على الطبيعة المتبربرة» [مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية] ويضرب رفاعة أمثلة بنساء تولين الحكم وأصبحن ملكات «وكلهن أحرزن حسن التقدير والإدارة وقدمن البراهين على لياقة النساء لمنصب السلطنة» [المرشد الأمين] ونعلم كيف أن رفاعة تعهد كتابة للسيدة كريمة زوجته بأن يبقى على عهدها ولا يأخذ عليها زوجة أخرى أو جارية ملك يمين «وأعطاها الحق فى الطلاق إن فعل ذلك دون رضاها» [رفعت السعيد- عمائم ليبرالية] ثم هو يقول «إن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتى من كشفهن أو سترهن بل ينشأ من التربية الجيدة أو الخسيسة والتعود على محبة واحد» [تخليص الإبريز فى تلخيص باريز]. وإذ نأتى إلى تنويرى آخر أخذ بتأويل النص تأويلاً صحيحا وهو الشيخ محمد عبده نقرأ «الرجل والمرأة متماثلان فى الحقوق والأعمال ومتماثلان فى الذات والعقل والشعور، واعلموا أن الرجال الذين يحاولون بظلم المرأة أن يكونوا سادة فى بيوتهم، يلدون عبيداً لغيرهم». [الأعمال الكاملة - ج5- ص208] و«لقد كان الناس لجهلهم لا يرون للنساء شأنا فى صلاح حياتهم وفسادها حتى علَّمهم الوحى ذلك، لكن الناس لا يأخذون من الوحى إلا بقدر استعدادهم، وإن ما أمر به القرآن بحسن معاملة المرأة لم تعمل به الأمة على وجه الكمال، بل نسيت معظمه وعادت إلى الجاهلية»[ص4] أما عن تعدد الزوجات فإن عبده يقول «الإسلام لم يقر عادات الجاهلية وليس صحيحا أن القرآن جعله دينا بل عمد إلى إصلاحه تدريجيا فوقف به عند حدود أربعة وضيقه باشتراط العدل، وهو أمر نادر بما يعنى الاكتفاء بواحدة إلا للضرورة القصوى» وإذا كان التعدد فى صدر الإسلام مفيدا فإنه لم يعد كذلك وإذا ترتب على شىء مفسدة فى زمن لم تلحقه فيما قبله فلا شك فى وجوب تغيير الحكم. أما جواز إبطال هذه العادة [لاحظ تسميتها بالعادة] فلا ريب فيه، ومن حق الحاكم والعالم أن يمنع تعدد الزوجات إلا استثناء فى حالات الضرورة [الأعمال - ج1] ويرى «أن الطلاق محظور فى ذاته مباح للضرورة» ويستعيد قول على بن أبى طالب «لا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش» ثم يؤكد محمد عبده «إن منح النساء حق الطلاق هو ما تقتضيه العدالة الإنسانية لشدة الظلم الواقع عليهن من فئة غير قليلة من الرجال» [ج2] هذا هو رأى العلماء العظام أخذوا بالتأويل ودعوا إلى تجديد الفكر الدينى. ويبقى أن أرجوك عزيزى القارئ أن تقارن بين هذا الرأى وما ستقرأه فى المقال التالى من رأى المتنطعين الذين أخذوا بمبدأ إعمال النص اللغوى حرفيا وفهموه أسوأ فهم. …………………………… (2) وقبل أن نبدأ أرجوك أن تراجع أو تتذكر بعضاً مما كان فى المقال السابق من إبداعات وتأويلات مستنيرة فقط لتعرف كم تردت بنا الأمور بعد أكثر من قرن ونصف من الزمان. ولترى كيف يتقدم العالم وكيف نتراجع نحن، وأدعوكم كى نراجع بعضاً من مواقف أقل ما توصف به أنها متأسلمة وفاسدة. ونبدأ بابن باز الذى أسهم وبكفاءة فى إظلام عقول بلا حصر. ونقرأ ما يقوله تحريماً لحق المرأة فى العمل فهى «تقع فى الإثم والمعصية إذ يقودها ذلك إلى الاختلاط بالرجل ومن أعظم آثار هذا الاختلاط أنه يعتبر من أعظم وسائل الزنى الذى يفتك بالمجتمع ويهدم قيمه وأخلاقه»، فالاختلاط فى العمل «له تأثير كبير فى انحطاط الأمة وفساد مجتمعها لأنه من المعروف تاريخياً أن الحضارات القديمة الرومانية واليونانية ونحوها أن من أعظم أسباب الانحطاط والانهيار الذى وقع بها هو خروج المرأة من ميدانها الخاص إلى ميدان الرجال ومزاحمتهم، مما أدى الى فساد أخلاق الرجال، وتركهم لما يدفع بأمتهم إلى الرقى المادى والمعنوى. وانشغال المرأة خارج البيت يؤدى إلى بطالة الرجل، وخسران الأمة انسجام الأسرة وانهيار صرحها، وفساد أخلاق الأولاد ويؤدى إلى الوقوع فى مخالفة قوامة الرجل على المرأة». أما تلميذ ابن باز وهو ابن عثيمين، فهو ينقل عن ابن تيمية وتلاميذه «أن المرأة كلحم على وضم وهى أحوج إلى الرعاية من الصبى وهى عورة وناقصة فى مواجهة كمال الرجل، وسترها واجب فى النقاب، فالنساء أعظم الناس إحداثاً للفواحش، وهن جند الشيطان وإذا ابتعدن عن التعليم والتعلم كان هذا أفضل وأكمل»، ثم يقول «اشتهر عند بعض الناس إطلاق اسم السيدة على المرأة، وهذا قلب للحقائق لأن السادة هم الرجال» ثم هو ينسب إلى الرسول الكريم حديثاً مشكوكاً فى صحته «استوصوا بالنساء خيراً فهن عوان عندكم» أى أسيرات والأسير بمثابة العبد ولهذا فإن وصف المرأة بالسيدة هو قلب للحقائق فهى امرأة وجمعها نسوة. ومن هذه البئر المسمومة شرب الإخوان فواصلوا ذات النهج. وفى العدد 59 من مجلة الدعوة [مارس 1981] يقول المفتى الإخوانى «حين نقرر حكم الإسلام فى وضع المرأة المسلمة ينبغى ألا نتأثر بأوضاع المجتمعات القائمة الآن وما فيها من فوضى وتقليد وتشويه وانحراف، فالبيت مقر المرأة ولا تخرج منه إلا عند الضرورة المقيدة بالحاجة الملحة أما خروجها بغير ضرورة فهو لعنة تدمر كل شىء»، وفى العدد 13 [ديسمبر 1978] يقول المفتى الإخوانى «إن خروج المرأة والاختلاط والسفور كل ذلك أدى إلى خلل خطير ولا مفر من الأمر المعروف والنهى عن المنكر وإقامة حدود الله فى الأرض» وفى العدد 43 [ديسمبر 1979] نقرأ «إن الشباب المسلم حين يخرج إلى الشارع أو الجامعة أو العمل يجد نفسه فى حيرة بين سفور فاضح وشعور مرخاة وملابس كاشفة وخلط عجيب بين أزياء الرجل وملابس النساء وهذا كله من عمل أعداء الإسلام وغيبة النظام الإسلامى وتنفيذ لبروتوكولات حكماء صهيون»، ثم هو وفى العدد 39 [أغسطس 1979] يحرم الباروكات التى يتفنن فى وضعها الكوافير والتكلف لإثارة الشهوات والإغراء والفتنة، ثم «أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليشموا ريحها فهى زانية» أما ختان المرأة فهو ضرورة «لأن غيابه يؤدى الى إشعال الغريزة»، ويجب على المرأة أن تبتعد عن «نتف» الإبط وتقليم الأظافر فكلها من سنن الفطرة التى يتعين على المسلم السوى أن يعرض عنها.. ومهما أطلنا وجدنا رفضاً لحقوق المرأة وتحقيراً لشأنها، وإصرارا على كونها كائنا أحط قدراً من الرجل وهى مجرد عورة يتعين سترها أو بالدقة سجنها فى سجن الزوجية. وفقط نقارن بين المسلمين المستنيرين فى المقال السابق وبين المتأسلمين إسلاما وتأسلما.