شعور ما بقتامة الآتي أحسسته أثناء إستماعي لحديث عدد من الإكاديميين خلال الندوة التي أقامها المركز العالمي للدراسات الإفريقية عن كيفية المحافظة على دولة السودان. مبعث القتامة كان يرجع فيما يبدو لتكشف الكثير من المهددات التي تجابه الدولة السودانية في أعقاب إنفصال الجنوب، مهددات قادرة على تفتيت ما تبقى من رقعته التي كانت تبلغ ذات يوم مليون ميل مربع. ما لم يتم تداركها بوضع المعالجات القاسية التي إقترحها المتحدثون في الندوة وهم يشيرون إلى ضوء في آخر النفق. ----- تشخيص .. وعلاج ابتدر الحديث في الندوة د. عمر عبد العزيز أستاذ العلوم السياسية بجامعة جوبا بتعداد المهددات التي تعترض مسيرة دولة الشمال ولخصها في أولاً: التآمر الدولي مذكراً بالإيادي الإسرائيلية التي تتحرك من وراء الكواليس لإلحاق الأذى بالسودان ومثّل لذلك بأدوار دولة الكيان في إنفصال الجنوب. ثانياً: تنامي الجهوية والقبلية خلال فترة حكم الإنقاذ نتيجة لإجتهادات قادتها في إضعاف الأحزاب السياسية (لبنات البناء الوطني) ما دفع الجماهير تلقائياً للإلتجاء إلى القبيلة. ثالثاً: نمو ظاهرة الشقاق في المجتمع واستعان د. عمر بعددٍ من الأمثلة نحو إرتفاع نسبة الطلاق بين الأزواج، وتزايد الإنشقاقات الحزبية، وظهور الصراعات في مجتمعات الرياضة (انتخابات نادي الهلال الأخيرة) والفن والأدب (النزاع بين اسحق الحلنقي ومحمد وردي) وغيره من ضروب الحياة. رابعاً: إتباع مناهج وسياسات خاطئة نحو السماح بإنسحاب الجيش القومي من جنوب السودان في اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) مع الزج بالمناطق الثلاث (أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق) في بروتوكولات ملحقة بالإتفاقية الأم ما شكل ألغاماً عالية الإنفجار في مسار الوطن تجاه المستقبل. خامساً: وجود رغبة حقيقية للتغيير، وهو عامل في حد ذاته لا يمثل تهديداً ولكن التهديد يكمن من جراء عسكرة الشعب (قال بوجود ما لا يقل عن مليوني قطعة سلاح منتشرة في إيدي المواطنين) فضلاً عن وجود حركات مسلحة تؤمن بالسلاح كآلية تفاوضية مطلقة وهي أمور ستجعل من أي تغيير تنطلق فيه رصاصة واحدة لسوق البلاد بكاملها تجاه حرب أهلية لا تبقى ولا تذر أسوة بالنموذج الليبي. وكعادة الإكاديميين لم يكتف د. عمر بتشخيص علل البلاد، فعاجلها أو عالجها بجملة من التدابير قال إنها لازمة الإتباع ولخصها في: عدم تقديم تنازلات للمجتمع الدولي، وقال في هذا الصدد إن التراجع خطوة في التعامل مع الولاياتالمتحدة على سبيل المثال كفيل بأن تتقدمك هي ثلاث خطوات محذراً من مغبة القبول بوجود بعثات تابعة للأمم المتحدة (يونميس) أو ممولة من قبيلها (البعثة الإثيوبية في أبيي) واصفاً ذلك ببداية التغلغل داخل نسيج السيادة الوطنية. كذلك نادى د. عمر بضرورة تضافر الجهود لمحاربة الجهوية والقبلية، والوصول لوفاق قومي وإغتنام فرصة إعداد دستور جديد للبلاد، وإشراك منظمات المجتمع المدني والعلماء والمفكرين في مسائل إدارة الدولة والإستهداء بما لديهم من رؤى، وتحول المعارضة لجزء من الدولة من خلال تقديم نموذج معارضة قوي وراشد، قيادة عملية إصلاح حقيقي وشامل تتضمن معالجة قصور مسائل الحكم، ومراجعة علاقات الحزب الحاكم بالدولة وعلاقات الدولة بأفرادها ومنظوماتها جنباً إلى مكافحة الفساد وإصلاح الأجهزة الإعلامية. كل ذلك مع وضع رؤية استراتيجية واضحة المعالم بينة المنهج جلية الهدف وذلك بإعتبار أن نهج سياسة رزق اليوم باليوم مؤداها الوحيد هو هاوية سحيقة لا قرار لها. مخاوف من المستقبل بدوره، وصف السفير عبد المنعم مبروك المرحلة التي تعيشها البلاد حالياً بالفاصلة خاصة وأن أبرز ملامحها هي انفصال الجنوب الذي يأتي في ظل إنفجار غير مسبوق للأوضاع (قبل أن يتحول الجنوب لدولة كاملة) في مناطق جنوب كردفان ومنطقة أبيي مع وجود تدخلات خارجية أحد أوجهها وجود قوات دولية قد ينجم عنها إرتفاع وتيرة الضغط الدولي على الخرطوم وربما إلقاء مزيد من العقوبات على كاهلها المثقل أصلاً بآثار العصي، وقطع الطريق أمام جهوده الرامية لإلغاء ديونه الخارجية مع إبراز كرت الجنائية كلما اقتضت الحاجة بجانب أن القضايا العالقة بين الدولتين السلف والخلف تعدان وصفة جاهزة للحرب والعودة إلى مربعها الأول، بجانب توتر الأوضاع في أبيي وجنوب كردفان، واستمرار ازمة دارفور وغموض المفاوضات الجارية بين أطرافها. وأشار مبروك إلى الحاجة لحوار وطني يوصد الباب أمام الصراع والإستقطاب الحاد في الساحة السياسية داعياً إلى إدارة حوار جاد وحقيقي بين مختلف المكونات وصولاً للتوافق الوطني، فيما كان المهدد الثالث ملامح أزمة اقتصادية قادمة وسببها الرئيس بانفصال الجنوب. وكسابقه د. عمر عبد العزيز، قدّم السفير مبروك خارطة طريق للخروج من متاهة الأزمة أهم مساراتها: خلق جبهة وطنية موحدة وصياغة عقد إجتماعي جديد، ومخاطبة جذور القضايا، ومحاربة الفساد، وإعادة فهم المكانيزمات المحركة للساحة السياسية على ضوء المتغيرات التي تمت بدول جارة، وتجاوز التنظير والدخول مباشرة إلى صلب الأزمات والعمل على تفكيكها، ومعالجة الآثار الاقتصادية الناجمة عن انفصال الجنوب، وخلق علاقة جيدة مع الدولة الوليدة، ومحاصرة النزعات الانفصالية وأسبابها، وإعادة صياغة السياسات الخارجية، والإلتفات لأهمية حل قضية مياه النيل بحسبان أن الشمال قد يدخل مرحلة ما أسماه (الفقر المائي)، بجانب الوقوف عن الإلتجاء للعنف كثقافة لمعالجة القضايا. إدمان الفشل وفي مداخلته، إختار د. فاروق أحمد آدم الباحث في النظم الدستورية، قولبة عنوان الندوة بطرحه لأسئلة من شاكلة: لماذا فرطنا في السودان؟ وليرد هو على نفسه بأن تراكم ظلامات خمسين عاماً منذ الاستقلال قادت لتلك النتيجة الرهيبة وبمزيد من الدقة فشل النخب في خلق وحدة مبنية على التنوع قاد لبروز النزعات الانفصالية.. وقال إن تجربة الحكم الثنائي البريطاني المصري أدخلت البلاد في نفق الثنائية القاتلة بمنأى عن الأخذ بالرأي الجمعي لتبرز الثنائيات بصورة دائمة: (الإتحادي والأمة)، (الختمية والأنصار)، (الشمال والجنوب)، (الإسلام والمسيحية)، (العروبية والزنجية)، (الهامش والمركز) (دولة الشمال والجنوب)، (الهلال والمريخ) وغيرها. وقطع آدم أنه وحال لم تستجب النخب الحاكمة لدعوات إدارة التنوع بصورة جيدة فإنها سترد ذات مورد التهلكة الحالي عبر تكرار أخطاء الماضي. وتحسر آدم على ثلاث سوانح ضائعة في تاريخ البلاد قال إنه كان بمقدورها تغيير مصائر البلاد أولها مؤتمر الخريجين بإعتباره فكرة وطنية نابعة من المجتمع السوداني ولكنها انتهت بكل آسف لمقاليد ملوك الطوائف، وسانحة الاستقلال الذي بزغ للنور والبلاد تعاني من ويلات حرب أهلية حالت وغيرها من الظروف دون وضع حسم أمر الدستور الدائم الذي ينظم أمور البلاد والعباد، أما آخر الفرص المهدرة بحسب رأي آدم فمتمثلة في اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) بإعتبارها وثيقة وطنية شديدة الجرأة وخاطبت أمهات القضايا الوطنية ولكن قصر نظر الشركاء أدى لإضاعتها. ومن ثم لخّص د. فاروق الحلول في: إرساء العدل الاجتماعي كوسيلة رئيسة لخلق الإستقرار، ونشر شرعية التراضي الوطني بما يدّعم وحدة البلاد، والتواضع على تأسيس عقد اجتماعي له القدرة على استيعاب الجميع. وحذّر من محاولات القفز على الأوضاع القائمة ودعا للتعاطي العقلاني معها وتجرع الحلول أياً كانت مرارتها. ا لرحيل تجاه الجذور وفي مداخلته، شدد أ. عمر مهاجر الأكاديمي والمحلل السياسي على ضرورة إدراك الجذور التي أسهمت في نمو أزمة التطور الوطني وقضت على الطبقة الوسطى برمتها وجعلت من الصراعات القائمة في الساحة السياسية هدفها السلطة لا مصلحة الوطن. وناشد المعنيين بخلق مشروع وطني نهضوي، والتداعي لحوار استراتيجي يجيب عن أسئلة الأزمة الوطنية من حيث العمق والتطور والمخارج. بر النجاة على كلٍ، فإن الندوة التي جاءت تحت لافتة سؤال: (كيف نحافظ على دولة السودان)؟ أشارت بوضوح إلى أن العديد من الطرق تؤدي إلى تفتت الوطن، لكن تبقى هناك طرق الجماعة -أو الطريق المفضى إلى النجاة -التي تحمل معها الوطن تجاه بر السلامة الوطنية كما تحمله دوماً في حدقات العيون.