كنت قد وعدت القراء الكرام بأن ألتقيهم عقب الإنتخابات حيث أسميت ذلك بموسم الإنتحابات. أسمحوا لي أن أُعيد عليكم فقرة من مقالي بعنوان " مشاهد سامقه تتقازم" والذي تم نشره في بعض منابر النشر الورقية والإلكترونية. تقول الفقرة " فصّلت وخاطت الإنقاذ جلابية الإنتخابات على مقاسها من ( البوبلين)، وخاطت أخريات كما لو كانت ملابس المهرّجين من ( خيش) كناف أبو نعامه وقدّمتها للقوى السياسية، حتى إذا ما كان يوم الزينة حيث تُعلن نتائج الإنتخابات لم يعد للقوى السياسية سوى (الإنتحابات) على شرعيتها المسكوبة والتي تنازلت عنها وحؤّلتها بنفسها للإنقاذ الذي سيُخرِج يومها عَفرتة مشرعنة لم يشهدها التاريخ" لم يكن ذلك تنجيماً، فالأمر بما حوى كان كتاباً مفتوحاً ومقروءاً لكل ذي بصيرة عطفاً على رصيد النظام من الفكر والتاريخ والتجارب. مضى الآن أكثر من شهر ونصف منذ أن تم إسدال الستار على مسرحية الإنتخابات في فصلها الأخير، حيث تم ما يمكن أن نطلق عليه إستعارة، العبارات التي استخدمها الإيرانيون من الإصلاحيين في إحتجاجاتهم على نتائج إنتخاباتهم، حيث قالوا (This is selection, this is not election) وهو تعبير مختصر في صياغته لكنه يحمل مدلولاً عميقاً في معناه، ولعله أبلغ تعبير يمكن أن نستعيره لوصف ما جرى في السودان عطفاً على ما جاء في تقارير هيئآت المراقبة المحلية والدولية المحايدة مِمن عايشوا في السابق ممارسة ديموقراطية حقيقية خلال حياتهم في السودان للمحليين، وفي بلادهم للدوليين، والتي وصفت ما جرى بأنه لا يُلبي المعايير الدولية، وبالطبع فالمعايير الدولية تعني انتخابات حرة ونزيهة ولا شيء غيره. ليس لنا أن نُذكّر بأن الإنتخابات التي تُجرىَ في الدول التي تُمارسْ فيها الديموقراطية بمضمونها الحقيقي والتي تحترم مواطنيها، بأنه لا يحضرها مراقب دولي واحد، هذا نهج يتم فقط في الدول التي تكذّب حكومتها على نفسها وعلى شعوبها. كما ليس لنا أن نطلب مِن اشخاص مع إحترامنا لهم قادمين من دول ليس في قاموسها السياسي كلمة ديموقراطيه ولا تعددية ولا تبادل سلمي للسلطة ولا إنتخابات، أكثر مما قاله بعضهم حين وصفوا الإنتخابات بأنها نموذج يمكن أن يُحتذى، هؤلاء معذورون في إجتهادهم، فمن الخطأ أن نتصور بأن يصفوا الإنتخابات بحقيقتها دون أن تكون لديهم مرجعية عايشوها تعينهم على القياس ومن ثم إصدار أحكام مبرأة من شوائب المجاملة وعدم الدراية. الأكثر دهشة من كل ذلك، فجميع المراقبين الذين شاركوا في تلك العملية لم يشاهدوا من المسرحية الإنتخابية إلا فصلها الأخير فقط، كيف إذاً يستقيم (لشاهد ما شافش حاجه) أن يشهد وتكون شهادته قاطعة؟ طبعاً المسمى بين القوسين مستعارة من مسرحية "شاهد ما شافش حاجه". فالمراقبون القادمين من دول عريقة في الممارسة الديموقراطية، العملية الإنتخابية لديهم تتم في يوم واحد هو يوم الإقتراع، وكل ما يسبق ذلك هو نشاط خاص بالمتنافسين، فليس لديهم إنشاء مفوضية إنتخابات، ولا دستور مؤقت، ولا إحصاء سكاني، ولا تقسيم دوائر ولا سجل إنتخابي، ولا حكومه شموليه جاءت بإنقلاب وحكمت عشرين عاماً ولا لها أجيال قضت أكثر من خمسة وعشرين عاماً لم تشهد إنتخابات، . إذاً معادلة المراقبين من أصلها معادلة مختلّة وبالتالي فالنتائج مرهونة بأصالة الخلل في المبدأ ولن تخرج عنه، ولكن مع كل ذلك استطاع البعض منهم أن يصيب في الإجتهاد بالحكم بفشل الفصل الأخير وهو (الإقتراع) الذي راقبوا بعضاً منه. كما لا بد أن نعيد الذاكرة إلى العام 1989 حيث بدأ قادة الإنقاذ عهدهم للشعب بكذبة وهم نفس القادة الذين أشرفوا على الإنتخابات الحالية. لماذا عجز المؤتمر الوطني مِن أن ُيشكّل الحكومة طوال هذه المدة رغم أنه ووفق النتائج التي كان ينتظرها قد استحوذ على أكثرية ساحقة من مقاعد المجلس الوطني وأخرى ماحقة لطموحات المتفائلين في المجالس التشريعية في الولايات. نتفهم أن لا يتحصل حزب واحد على أغلبية تمكّنه وفق مقتضيات الدستور من تشكيل الحكومة منفرداً كما هو الحال في انتخابات بريطانيا، ورغم ذلك تمكن الفرقاء هناك من تجاوز الأزمة في غضون أيام قلائل وتم تشكيل الحكومة، لكن دعونا نستدرك بأنه من الظلم أن نقارن السودان ببريطانيا حيث فارق الممارسة الديموقراطية على الأقل في بُعدها الزماني. كما نتفهم ما يجري في العراق بعد الإنتخابات واستعصاء الأمر على الساسة هناك لأن الأمور مكبّلة بعوامل داخلية وخارجية مؤثّرة، فضلاً عن مأزق عدم حصول أي قائمة على الأغلبية المطلقة وفق منطوق الدستور، لكننا بالقطع لا يمكن أن نجد أي عذر لعدم استطاعة الحزب الذي حكم عشرين عاماً في السودان بمختلف المسميات آخيرها وليس آخرها (المؤتمر الوطني) وبعد انتهاء الإنتخابات بنتائج مطابقة لما يرغب ولا يستطيع أن يشكّل الحكومة لأكثر من شهر ونصف. رئيس الجمهورية الذي أُعلن أنه الفائز، قام بإصدار مراسيم وقرارات كان أقلها هو تنصيب الولاة وأداؤهم القسم أمامه وغيرها، بيد أن الرئيس نفسه لم يؤدي القسم أمام الهيئة التشريعية بعد، وفق نص المادة 56 من الدستور الإنتقالي لعام 2005 حتى تُفعّل شرعية ممارسته لاختصاصاته الواردة في المادة 57، وحتى يكون محكوماً إجرائياً بقسمه في أداء اختصاصاته، (وبالطبع ليس لدينا عشم في تحقيق المضمون)، وفي تقديري لم يكن الترتيب للمواد في مثل هذا الأمر عفوياً، فالإختصاصات تتبع قسم التخويل. آمل أن لا أكون مخطئاً في ذلك، فهي ليست إفتاءاً بقدرما هو استفسار موجّه إلى أهل الفقه الدستوري لإفادتنا. المأزق الذي يعيشه قادة المؤتمر الوطني، هو أنه وخلال قيادتهم للحكومة التي سبقت الإنتخابات، لم تكن حصيلتهم من الإنجازات فيما يتعلق بتحقيق شعار المقطع الوارد في الأغنية التي تقول"جدودنا زمان وصونا على الوطن وعلى التراب الغالي" متّسقاً مع قدر الإزباد والإرغاد اللذان لازما نوبات هجمتهم على الحكومة التي انقلبوا عليها والأحزاب المتحالفة معها آنذاك وغيرها مِن الأحزاب المؤازرة للنهج الديموقراطي الذي كان سائداً، واصفين إياهم جميعاً بأنهم فرّطوا في الوطن وعرّضوا وحدته للخطر، وأنهم جاءوا للحئول دون وقوع ذلك الخطر بتقسيم البلاد. القراءة العميقة للتجربة مع قادة الإنقاذ، تقول انهم ينفّذون ما لا يقولون، وبالتالي فهم يبطنون ما يريدون تنفيذه، وهاهنا لا تنطبق قاعدة الإستعانة بالكتمان في تنفيذ الحوائج، لأن ما يديرونه هو شأن عام. إذاً مبدأ التقسيم هو ما يبطنونه، وما كانت الإرهاصات التي سبقت اندلاع الأزمات في ربوع الوطن خلال عهدهم وتوسّع تلك النزاعات إلا مقدّمة للنتائج التي سيتم حصدها اعتباراً من العام 2011. بيد أن قادة الإنقاذ يبرعون في خلق الأزمات ويسعون ورؤسهم تحت الرمال آملين أن يُحمّلوا وزر ذلك لآخرين من الأحزاب التي ربما أغرتهم خُضرة الأعشاب القاصية التي يُلقون بها وذئبهم متخفّياً خلفها، تماماً كما وقع بعضهم في شِراك المشاركة في الإنتخابات فندموا، ولات ساعة مندم. قيادة الإنقاذ ورغم ما عملت على تحقيقه وحققته بطريقتها المعهودة في الإنتخابات، إلا أن ذلك لن ينعكس إيجاباً على رغبتها في الإستعصام بعروة السلطة، فهي لم تهييء شباباً يملك الثقة في النفس لينطلق بالوطن نحو آفاق التنافس الدولي في مراقي التطور والنماء، وإنما أجبرت أجيالاً على أن تتوشح بملاحف اليأس والفقر فتندثر، أو تتشبّث بكعوب أخائلهم إستدراراً لحقوقها تحت الإبتزاز والتبعية. فأنىَ والحال كذلك أن يهنأوا بالسلطة، فالفطرة تذكّرنا بأنه مهما ادلهمت الأمور عند الشعوب، يخرج من بين أجيالها المقهورة (أخيل) يحيل يأسهم إلى بأس وينقلهم إلى مرافيء يتمنونها. يبدوا أن قادة الإنقاذ يستشعرون بعضاً من إضاءآت يستبينون اشعتها في أفق الأيام لمحارق أدبية سيسطرها التاريخ عنهم وتقرأها الأجيال القادمة، إن مضت الأمور على نحو ما تستهوي مشاعرهم بنتائج موازية في الإستفتاء المرتقب لنتائج الإنتخابات. هذا الإستشعار يمكن أن يكون مدلولاً إيجابياً لمراجعة لإمارة النفس بسوءآت عمّت بوائقها الوطن لعقدين، ولكن يُشترط إتباع ذلك بخطوات حقيقية تستهدف التنازل عن إدارة الدولة في هذه المرحلة الحساسة قرباناً للتكفير، وهذا لن يصدر إلا من أُناس صقلتهم العزائم وطهّرتهم النوائب وعلمتهم حُب الوطن. غير أننا ندرك بأن تضع قادة الإنقاذ أمام تحدي بهذا القدر، هو أشبه بأن تطلب ممن يَعتقدْ بأنه يعيش في جنّة ليخرج ويقضي بعض الوقت مع ساكني النار مجاملة لهم. يريد بعض قادة الإنقاذ أن يُشركوا ضمن الحكومة المقبلة بعضاً ممن يحمّلونهم وزر إضاعة الوحدة الوطنية، أما البعض الرافض والرازح تحت ما تعتمره انفسهم بضرورة الإستمرار في الإستفراد بالسلطة، هؤلاء أذعنوا لنظرية إقصاء الآخر حتى وإن كان هذا الآخر سيكون (كومبارس)، هؤلاء تجاوزوا مرحلة متقدمة من النظرية، فهم الآن في طور الإقصاء من الذات، والإقصاء من الذات هي مرحلة التفكك الداخلي الذي يسبق التلاشي، لأنه ببساطة، مَن جَبُل على أن يكون له عدو ولم يجد، سيصنع عدواً في مخيلته ليحاربه. تُرى هل سيكون هنالك مِن الأحزاب من له الرغبة في تحمّل بعض الوزر. 25/5/2010 Abdul Jabbar Dosa [[email protected]]