ليس من قبيل المبالغة القول إن مشواراً شاقاً ومطولاً من المشاكل والخلافات قد بدأ للتوّ إنطلاقاً من المائدة التفاوضية فى أديس أبابا بين دولتيّ السودان وجنوب السودان . لم يكن التوصل لاتفاق جزئي أو كليّ بشأن القضايا الخلافية بين الدولتين هو نهاية المطاف. ولهذا فإن الحكومتين وبقدر وافر من المسئولية الوطنية فى حاجة لترسيخ هذا المعني كل واحد على حدا لشعبها. المشوار طويل ومعقّد، فهناك دولة واحدة تحولت لدولتين وعلى الرغم من ان عملية الانفصال كانت حضارية وتمت بسلاسة نارة بالنظر الى واقعهما الاقليمي والمحلي إلاّ أن القضايا الخلافية والاشكالات التى كان محتماً ان تنجم عن الانفصال ليست سهلة ولن يتم حلّها هكذا دفعة واحدة، وفى مائدة واحدة و تتعافي الدولتان على الفور. إن الأمور المتعلقة بالاقتصاد والحدود والأمن المتبادل من أعقد الأمور نظراً للتداخل الكبير فى مصالح شعبيّ الدولتين من جهة، ونظراً لتعقيدات الحدود المعروفة فى القارة الافريقية، ثم نظراً أيضاً لواقع الدولتين من حيث أن كليهما ينهض ويتعافي الآن بصعوبة بعد طول إحتراب وعدم استقرار وإشكالات إثنية وإجتماعية وسياسية. ولهذا أيضاً ليس من الانصاف مقارنة الأمور بما جري من قبل فى ألمانياالغربيةوألمانياالشرقية أو الكوريَتين، كما أن عامل الشعور أعقد والعامل الاقليمي والدولي واضح التأثير والبصمات. كما أن عامل شعور القادة الجنوبيين على وجه الخصوص بثأرات قديمة وجراحات سابقة سيظل يؤثر فى مسيرة الدولتين والمستقبل القريب لكليهما. هذه النظرة التى نسوقها أبعد ما تكون عن التشاؤم أو المخاوف السالبة من إنهيار ما تم التوصل اليه مؤخراً فى أديس أبابا بما يعتبر (نصفاً ممتلئاً من الكوب). ولكنها نظرة واقعية وموضوعية حتى لا يعتقد البعض خطاً ان مجرد انفضاض السامر فى أديس سيحول الواقع الماثل على الارض الى جنان وارفة ونعيم ما بعده نعيم! هنالك طريق شاق محفوف بالمخاطر على الجميع السير فيه، حكومتين وشعبين، بذات القدر من الحرص والحذر، فالحرب تركت أثرها، وبناء الثقة وتقوية أواصر التآلف وحسن الجوار يحتاج الى عقود إن لم نقل قرون مطوّلة. ومن يعتقد ان جوبا ستدع دعم المتمردين والتدخل السافر فى الشأن السوداني فقط إستناداً الى حجيّة الاتفاقات لا شك واهم! ليس فقط لأنّ جوبا ستظل تحاول بشتي السبل إيذاء الخرطوم ما إستطاعت الى ذلك سبيلا، لأسباب تاريخية وتراكمية، بل وربما شخصية، ولكن أيضاً لأنّ هناك قوي مرتبطة بجوبا وجوبا مرتبطة بها، وأحد من أهمّ أهدافها أن يظل الفارق السياسي بين الدولتين شاسعاً فى كل شيء، وألاّ يتقاربا على أىّ حال من الأحوال. قد تمثِل الاتفاقات المبرمة حالياً هدنة سياسية بدرجة ما، وقد تشكل حجراً للأساس لبناء جوار آمن، ولكن لن يستمر ذلك طويلاً. سوف تغذِّي دولة مثل اسرائيل عوامل عدم الثقة والمخاوف والهواجس حتى تنشب حرب شاملة، وهذا واضح فى موجة التسليح التى ما فتئت واشنطن وتل أبيب ترفد بها جوبا منذ بداية فترة الانتقال فى 2005م وحتى هذه اللحظة. لا أحد يمكنه ان يتصور ان واشنطن وتل أبيب تسلحان جوبا لخوض حرب ضد يوغندا أو كينيا أو إثيوبيا أو إرتريا ؛ كما لا يتصور عاقل ان واشنطن وتل أبيب تحترمان المعاهدات الدولية من هذه الشاكلة وتحرصان عليها بنداً بنداً. وفوق كل ذلك لن يكون هدف هؤلاء الثلاثة هو فقط التضييق على المؤتمر الوطني خصمه الظاهر حالياً، سيكون أىّ نظام حكم فى الخرطوم مهما كان مغايراً للوطني هدفاً لهؤلاء حتى ولو غابت الحركة الشعبية هى الأخري فى جوبا بعد عقد أو عقدين أو حتى نصف قرن. فطبيعة اللعبة تقضي أن يتم ضرب الجنوب بالسودان حتى يصابا معاً بالكساح ليُعاد لاحقاً تشكيلهما كيفما تريد واشنطن وتل أبيب نظراً للموارد الهائلة الكامنة فيهما. إن الاتفاق بين الدولتين فى الوقت الراهن فى جزء منه اقتضته الظروف الانتخابية للولايات المتحدة، وفى جزء آخر إستراتيجية تل أبيب الهادفة الى تهدئة اللعب لعام أو عامين ريثما تنتهي مهمّة ضرب إيران والتخلص من برنامجها النووي المثير لذعر الدولة العبرية. إن النصف الفارغ من الكوب فيما يخص الاتفاق السوداني الجنوبي – للأسف الشديد – أكبر مساحة وأكثر أثراً من الجزء الممتلئ، وتلك هى أقدار السودان التى عليه أن يتعايش معها!