كان سهلاً على أمراء الفونج ابتلاع إدانة الشيخ إدريس ود الأرباب لهم بسرقة أرض النوبة.. كان سهلاً عليهم، التقرُّب إليه بالتنازل عن نصف المملكة كهدية له، لكنهم لم يطيقوا أبداً رغبة الشيخ عجيب المانجلك في إعادة الأمور إلى نصابها بحد السيف..! لخص المانجلك زعيم العبدلاب، مسار التحالف في قوله إن «الفونج غيّروا العوايد».. تلك «العوائد» ترقى في نظر العبدلاب، إلى حد القداسة، إذ هي الفرمان الذي أوجب لهم السلطة مع حليف قوي يحسب مواقفه بدقة.. ولعل عبارة الشيخ عجيب، بأن الفونج «غيّروا العوايد» هي نفسها العبارة التي صدرت من الدكتور حسن الترابي حين تمفصل عن عسكره وتلامذته، فالدكتور الترابي، كأحد أشهر المتطلعين نحو الجمع بين الولاية الروحية والسياسية، استخدم ذات المعنى في وصف إقصائه عن السلطة، فقال إن تلامذته «تنكروا للمواثيق والعهود»، في معنى خروجهم عن طوعه، بعد أن كانوا تحت إمرته في الانقلاب على الشرعية في يونيو، 1989.. وفي النصيحة التي تبرع بها الشيخ إدريس للمانجلك، ألا يدخل في صراع مباشر مع الفونج، هنالك إشارات تدل على استعداد الفريقين منذ زمن لمعركة قادمة فاصلة.. الأمر في تجرده كان صراعاً على السلطة بين فريقين، لم يخفف أواره التحالف، ولا المصاهرة، ولا النصح.. لقد انطلق المانجلك مع ثقافته العرقية والعقدية التي ترفض الخضوع لمن يرى أنهم خارجون على الدين.. أنظر: يوسف فضل، مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي، ص 74 ولمّا وصلت الأمور إلى تلك النقطة الحرجة، كان تغييبه بالقتل هو خاتمة للثورة، أو إن شئت التمرد.. ومنذ مقتل الشيخ عجيب في كركوج على أيدي الفونج، تخفى جنوح الصوفية نحو السياسة وراء الأحجبة والحروز، لأن رسالة مقتله كانت تعنيهم أولاً.. من حينها تخفّى نشاط الصوفية ولم يستعلن من وراء الكواليس إلا في عهد المهدية الأول..! لنرجع قليلاً إلى الوراء ونتأمل موقف الشيخ إدريس ود الأرباب من السلطة التي غدت مُلكاً خاصاً بالفونج بعد التخلّص من المانجلك.. السلطة التي أضحت «فونجاوية، كاملة التفنيج»..! ليس من السهل تفسير رفض الشيخ إدريس لنصف المملكة كهدية من الفونج، بأنه كان موقفاً من زاهد، فالزاهد لا يختار موقع المراقب والقائم على دور الشفاعة بين المتخاصمين..! ربما كانت تلك الهدية مجرد قول من حاكم، أو «كشكرة» كما يقول السودانيون.. ربما كان من باب الترضية له باعتباره أحد أهم أقرباء القتيل.. ربما كانت ثمناً لصمته كولي يستطيع أن يؤلب عليهم.. والاحتمال الأخير يجعل من تلك الهدية، أقرب إلى شراء صمته عن قتل ابن خالته..! الشاهد أن رفض الشيخ إدريس ود الأرباب لهدية الفونج بإعطائه نصف المملكة، وما أتبع ذلك من إدانة للفونج بأنهم غاصبون، قد كان بمثابة تعبير عن موقف الوسط السياسي السوداني، في طلاقته المعروفة في وجوه الحكام.. تلك الطلاقة معهودة عند السودانيين في ما يُسمى بالديمقراطية الشعبية، حيث لا تكف ألسنتهم عن الإفصاح الشفيف عن مواقفهم و خواطرهم، مهما عظمت آثار القول.. هذه الطريقة في البوح ضد السلطة معروفة لديهم يقولون بها، في بيوت الأفراح والأتراح، في حضرة الحاكم أو تحت رقابة عيونه.. كان مقتل المانجُلك شارة في ذلك الطريق، حيث تحقّقت الغلبة للفونج الذين كانوا يمسكون بعظم الدولة، وبتلك الحادثة تأكدت حقيقة تلازم القداسة والعنف واستخدامهما كسلاح ماضٍ ضد الغرماء.. لا نقول إن هذه الحادثة أخافت جناحي النخبة من صوفية وفقهاء ذلك العهد، لكن الشاهد هو أن وهج مقاومة السلطان قد خبا وراء أنماط النشاط الاجتماعي والديني.. وتلازم القداسة والعنف معناه، أن أداة «الدولة» قد استُغِلت كأداة باطشة بالمجتمع، فكان أثر ذلك، أن تغلفت الكثير من المواقف المُصادِمة، خاصة عندما تتخذ السلطة من الفتاوى ذرائع..! في مقابل ذلك، تتكاثر حالات الاعتزال في الفلوات والخلوات، ويزدهر النقد المُرمّز، وتتأوّل تأوهات الأدعية المبهمة، وتتخذ هي ومثيلاتها كمطايا للتعبير عن الرأي المكبوت.. في ذلك مثل ذاك الظرف، وحين تستخدم الدولة القداسة، يتّخِذ مُصانعوها، من اللعن أو التبريك مواضع للفعل، وجزاءً من جنس العمل..!