الديمقراطية كما عرفها اليونانيون القدماء هى حكم الشعب بالشعب وللشعب. هذا هو التعريف النظرى لها أما التعريف التطبيقى فهو سيادة رأى الغلبية من خلال عملية التصويت بواسطة ممثلين منتخبين ينوبون عن أفراد الشعب فى عملية إتخاذ القرار ومن لوازمها الحرية. هذا المفهوم للديمقراطية لم يتغير منذ ذلك التأريح و أصبح إرثاً إنسانياً يمارسه بنى البشر فى مجال الحكم و فى غيره من مجالآت إتخاذ القرار و مازالت هذه النظرية الديمقراطية رائجة وراجحة على حد تعبير الإمام الصادق المهدى، إذ اعتمدها الإنسان فى مختلف الحقب كالوسيلة الأنسب للتداول السلمى للسلطة وكحل مرضٍ للأطراف المتصارعة مما خفف من حدة الصراعات و ادى إلى درجة من الإستقرار فى أنظمة الحكم فى كثير من البلدان كما أدى إلى كثير من الثورات الشعبية حينما تتعرض الشعوب للإضطهاد من الحكام المستبدين الأفراد والجماعات. إن الديمقراطية لم تكن يوماً غاية فى حد ذاتها بل كانت وسيلة مرتضاة من وسائل إتخاذ القرار. لقد مرت كثير من الشعوب بفترات حكم بشع جعلها تثور منادية بالحرية والديمقراطية ودفعت فى سبيل ذلك أرتالاً من الشهداء وأنهاراً من الدماء ولم ترضخ ولم تستكين إلى أن تحقق لها ما أرادت. إن الديمقراطية كنتاج فكر بشرى تستند على ما ينتجه الفكر البشرى من أفكار وآراء وتحتكم لذلك و هى بذلك تختلف عن الفكر الدينى الذى يحتكم إلى هدى سماوى من خالق البشر، فالشورى مثلاً، آلية من آليات إتخاذ القرار الجماعى، بالإتفاق إستناداً إلى مرجعية دينية داخل الأطر التى يحددها الدين. هذه النظرية الديمقراطية رغم مرور قرون عديدة على نشأتها لم يتفق بنو الإنسان على بديل لها حتى فى الدول «الثيوقراطية» التى تؤمن بإلله أو بآلهة أخرى بل ظلت كما هى يمارسها الإنسان فى كثير من الأماكن بنفس مفهومها الأول حتى الدكتاتوريون ليكسبوا بها قبولاً لدى مجتمعاتهم ولدى المجتمع العالمى ولكن بفهمهم الخاص لها. النظريات الحديثة فى الإدارة أوجدت ثغرات كثيرة و كبيرة فى النظرية الديمقراطية فى المفهوم والمصطلح وفى الممارسة على حد سواء كلآتى: - أولاً: إن الديمقراطية كفكر إنسانى يختلف فهمها و ممارستها من إنسان لآخر للإختلاف فى فهم المصطلحات. - ثانياً: إن المفهوم و المصطلح فضفاضان ولا يمكن التحكم فى درجة شمولهما وبذلك يمكن أن تسمح الممارسة الديموقراطبة بالتحايل على القانون و على الأخلاق طالما أن الهدف هو الوصول للأغلبية. - ثالثاً: طالما أن هنالك طبقات و أفراد مؤثرين فى المجتمع فيمكنهم التأثير على الأفراد الآخرين وبالتالى على سير العملية الديمقراطية. - رابعاً: أن الممارس و الممارس عليه إنسان وبالتالى لا يمكن ضبط تصرفات أى من الطرفين و ذلك للإختلافات النوعية بين بني البشر فى التكوين العقلى و النفسى والسلوكى. لقد تطورالفكر الإنسانى كثيراً عن ما كان عليه فى عهد الإغريق حيث دخلت فلسفات كثيرة دينية وغير دينية وتمت ممارسة الديمقراطية بمفاهيم متعددة وعلى مستويات متعددة وبالرغم من أن الفكرة الأساسية بقيت كماهى حتى فى البلدان المتطورة التى تجذرت فيها الممارسة الديمقراطية بصورة عميقة و تطور فيها الفكر السياسى والإدارى، إلا أن الفكر الإنسانى لم يصل إلى وسيلة لضبط الممارسة الديمقراطية بالصورة المثالية التى نادى بها مبتدعوها ولم يتوصل لإبتكار البديل المقنع لها. إن التطور فى الفكر الإنسانى لم يلغِ مفهوم الديمقراطية كلياًً بل أوجد ثغرات فى أساسها و ذلك من خلال النظريات الحديثة فى الإدارة والتى أثبتت أن الديقراطية بمفهوم سيادة رأى الأغلبية تعارض نزعات أساسية فى التكوين البشرى حيث يفرز نظام التصويت كآلية لإتخاذ القرار فى العملية الديمقراطية منتصراً ومهزوماً مما يقسم المجموعة إلى كتلتين متعارضتين ومتضادتين تعمل كل منهما للانتصار لرأيها و قد تستعمل شتى الأساليب حتى التى خارج نطاق الممارسة السليمة المثالية الهادفة لمصلحة المجتمع. أيضاً وجود فوارق نوعية بين أفراد المجتمع لا يفرز التمثيل الحقيقى للرأى الصائب مثل ما يحدث فى بلدان العالم الثالث حيث تنتشر الأُمية و الجهل و التخلف وعدم الوعى والتى تجعل من الطبقة المستنيرة الحاكمة فى هذه البلدان أشبه بقاطرة تجر عربة أكثر من قدرتها مما يعطى المهزومين الإحساس ببطء عملية التغيير وأنه لا سبيل للتغيير إلا بالقوة. هذه الآراء قادت كثير من المفكرين إلى إبتداع نظريات جديدة تهدف إلى إيصال المجتمع إلى درجة عالية من التجانس و التراضى تسمح بالتطور السلس لكل اوجه الحياة. نظرية الجودة الشاملة من النظريات الفلسفية التى تقوم على المشاركة الجماعية لكل أفراد المجتمع فى صنع الأهداف وفى تحقيقها. نظرية الجودة الشاملة وما تفرع عنها من نظريات فلسفية تخلق القاعدة التى يمكن أن تنطلق منها اى مجموعة إلى الأمام و هى بذلك تبتعد عن مفهوم الديمقراطية كثيراً وتخلق منحىً جديداً للتفكير فى كيفية تطوير الأداء الفردى والجماعى مما يؤدى إلى إنسياب حركة المجتمع ككتلة واحدة نحو أهدافه. نظرية التخطيط الإستراتيجى التى تستند بصورة كبيرة على فلسفة الجودة الشاملة والتى تعنى نقل المنظمات من وضعها الراهن إلى وضع مستقبلى يتصوره قادتها من خلال المشاركة والمسئولية الجماعية فى العصف الذهنى للأهداف والرؤية والرسالة وفى الإستراتيجيات التى تنقل إلى هذا الوضع المستقبلى. هاتان النظريتان أهم ملامحهما هو عدم وجود تمثيل وأن كل فئات المجتمع تشارك بصورة ما فى صنع الأهداف وفى تصور الوصول اليها، وتتحمل المسئولية فى ذلك من خلال جلسات مشاركة جماعية يكون الإتفاق هو الوسيلة المعتمدة لإتخاذ القرار وليس التصويت. نحن فى السودان نشهد هذه الأيام حراكاً سياسيا و إجتماعياً فى بداية الإستعداد للانفصال و بداية تكوين دولتين تنتظر كلا منهما مشكلات كثيرة و خطيرة. انفصال الجنوب تم حسب رغبة اهله و حسب من توافقنا معهم عليه وهم أدرى بكيفية إدارة دولتهم فيجب أن ننتبه نحن فى الشمال لتصحيح كثير من اخطائنا و ترتيب أوضاع دولتنا ونحافظ على ما تبقى منها. لقد دعا رئيس الجمهورية ورئيس المؤتمر الوطنى لقيام حكومة عريضة ودعت المعارضة لتكوين حكومة قومية وبدأ الإنصراف إلى هذا الجدل البيزنطى وأرجو ألاّ يستمر ليهجم علينا العدو قبل أن نتاكد...مِنْ مَنْ جاء أولاً الدجاجة أم البيضة؟ لقد رفضت الأحزاب دعوة المؤتمر الوطنى وكذلك رفض المؤتمر الوطنى دعوتها، لكن الملاحظ أن الصورة العامة لما يحدث الآن تشى بأن كثيرين ينظرون للحكومة القومية أو الحكومة العريضة كغاية و تكتيك و ليست كوسيلة لغاية. المعارضة تهدف بها إلى إنهاء حكم المؤتمر الوطنى والمؤتمر الوطنى ينظر من خلالها للاستمرار فى الحكم كوسيلة للهروب من مآلات المحكمة الجنائية ولا يفكر فى ما سيحدث بعد الاستفتاء خاصة أن الوضع فى السودان أصبح متوتراً ومعرضاً لتجاذبات كثيرة تهدد وحدته ووجوده فى كلتا حالتى حكم المؤتمر الوطنى أو المعارضة. لذلك لابد من جلوس الجميع حكومة ومعارضة ومجتمع مدنى سوياً والوصول إلى قائمة واحدة من الأهداف وأسس جديدة للممارسة الديمقراطية. إن مستقبل السودان سواء قامت الحكومة القومية أوالعريضة هو مسئولية أى فرد سودانى سليم العقل راشد لأن الصورة أمامنا واضحة ولا تحتاج لإلقاء مزيد من الضوء عليها بل أنها بارزة خارج الإطار. الصراع السياسى المتمثل في حرب دارفور، انفصال الجنوب، التوتر فى بقية أجزاء السودان، المشاكل الاقتصادية والإجتماعية والبيئى و غيرها من رزنامة المشكلات التى تحتاج للحل ولوضع خطوط سقوف وطنية يعمل الجميع تحتها لوضع الحلول للمشكلات الحالية و وضع خارطة طريق مستقبلية «خطة إستراتيجية» تنقلنا للدولة العلمية التى نحلم بها. إذن، لابد من جلوس الحكومة والمعارضة بكل فئاتها وأحزابها وتكويناتها وأفرادها و منظمات المجتمع المدنى عامة فى جلسة «تخطيط إستراتيجى» تضع أهدافاً عليا ملزمة للجميع تنقل البلاد من هذه الحالة الحرجة إلى برّ الأمان وبعد ذلك يمكن أن يتنافس المتنافسون ليس فى الصراع نحو مقاعد الحكم بل فى وضع الدراسات و الحلول لمشكلات الوطن لخلق الدولة العلمية التى تنافس فى حلبة العولمة القادمة. و بالله التوفيق