قال الشاب لجده بامتعاض وهو يشيح بوجهه إلى قرص الشمس الدامي: ما قيمة الحياة يا جدي ونحن مستهدفون في العرض والوطن؟ قال له الجد بتروٍ وهو يعتدل في جلسته: أراك اليوم أكثر حنقاً وسخطاً على الحياة يا ولدي؟؟! قال الشاب وهو يجول ببصره في السماء: أنا لست حانقاً ولا ساخطاً على الحياة يا جدي، ولكني أمقت حياة الذل والتشرد، أليس من حقي أن أعبِّر عن عدم رضائي بهذه الحياة الذميمة؟ قال له الجد وهو يربت على كتفه: من حقك يا ولدي أن تعبِّر عن كل مواجعك وآلامك، ولكن ليس بالكلام فقط؟! قال الشاب وهو يرمق جده باحترام: ليس بالكلام فقط .. إذاً بماذا يا جدي؟ قال له الجد في تأن وحذر: اسمع يا ولدي .. لكل سلاح موضع .. أحيانا الكلمة تكون أخطر من البندقية، ولكننا لا يمكننا أن نستعملها في موضع البندقية، ولا أن نستعمل البندقية دائماً منطقاً بديلاً للكلمة .. إذ لكل مقام مقال. قال الشاب وهو يبلع ريقه: فهمت يا جدي أنت تقصد أن الكلمة أحياناً تكون أبلغ من السلاح، ولكننا نحن اعتمدنا عليها بديلا. قال الجد وهو يبتسم في دهاء ماكر: أنا لم أقل ذلك ولكنك يا ولدي شرحت كلامي بطريقة إيجابية إلى حد ما. قال الشاب وهو يحدق في تجاعيد وجه جده البالي: متى العودة يا جدي إلى الكرمة؟ أطرق الجد طويلاً ثم أدار وجهه وهو يعبث بذقنه الطويل: «العودة» يا ولدي كلمة جميلة، وقد لا يدرك معناها الحقيقي إلا من كابد سنين الاستعمار والضياع والاستبداد والتشرد، ومن ذاق صنوفاً من الذل والهوان والاضطهاد، ولا أدري متى العودة، ولكنني أتحرق شوقاً لرؤية الكرمة. قال الشاب وهو يدنو في شغف ونهم: حدثني عنها يا جدي .. احكِ لي عن عمي أحمد، وخالتي ليلى اللذين استشهدا برصاص الغدر.. سكت الجد برهة ثم قال وهو يتنهد بحرقة وألم: الكرمة يا ولدي هي مسقط رأسي وموطني ومهد آبائي وأجدادي.. فيها ولدت وعلى رباها ترعرعت وعندها ودعت أجمل أيام شبابي وعليها تركت أحلى فصول ذكرياتي.. ولا زلت أذكر لهونا عند الجدول وهمسنا على الربوة ونحن نسابق الرياح وخدودنا مبلّلة بقطرات الطل. قال الشاب مقاطعاً: أنت شديد الذاكرة يا جدي. قال الجد وهو يغرس بيده في حفر خدوده التي أهانها الزمن: أنا لست قوي الذاكرة يا ولدي، ولكنني لا أنسى تلك الأيام فهي حبيبة إلى نفسي بما فيها من حلاوة ومرارة، كيف أنسى يا ولدي شمل العائلة وذلك الهناء والألفة ووصية والدي «احفظ الله يحفظك»، ودعوات أمي عند كل صباح ومساء «اللهم نسألك العفو وحسن المآب»، وصورة عمك أحمد وهو ميت والعلم مرفوع لم يسقط.. وصورة خالتك ليلى وهي تفجر نفسها وسط مجنزرات العدو وهي تهتف بأعلى صوتها من بين ألسنة النيران «وليحيا الوطن». قال الشاب في حسرة وحزن: ليتني كنت معكم في ذلك اليوم يا جدي.. قال الجد وهو يفرك عينيه بتثاقل.. القطار لن يتوقف ما دام الوطن سليباً.. حتى يعود، وأنتم الذين سوف تديرون عجلة القطار، أما نحن فدورنا لم ينته بعد. قال الشاب مازحاً: أتريد أن تحارب يا جدي؟ أجابه الجد: نعم ولم لا؟ قال الشاب وهو ينظر إلى بنية جسد جده المنهار: لكنك لا تستطيع أن تحمل البندقية بعد هذا العمر يا جدي. قال الجد بسخرية بالغة: ولكنني أستطيع أن أقول الكلمة بوصفها منطقاً بديلاً لأنني غير قادر على حمل البندقية .. فليحمل البندقية القادرون ولنقل نحن الكلمة. قال الشاب بحماس قاطع وهو يبتسم في وجه جده: وسنحمل البندقية يا جدي. قال الجد: ونحن معكم يا ولدي .. كلنا من أجل قضية واحدة.. النصر أو الشهادة في سبيل وطننا السليب. قال الشاب وهو يتكلم بحرارة: النصر حلو يا جدي والشهادة أحلى، غداً سوف أنضم لكتيبة التحرير.. أرجو أن تأذن لي بذلك، وإذا ما كتب الله لنا النصر سأكون أول زائر لمنزلنا بالكرمة يا جدي .. وأما إذا ما كتب الله لي الشهادة فأرجو أن تدفنوني على ربوة الكرمة بجوار عمي أحمد، وخالتي ليلى، وأن تخلدوني باسم «شهيد الكرمة».