سلطان دار مساليت: إرادة الشعب السوداني وقوة الله نسفت مخطط إعلان دولة دارفور من باريس    نقاشات السياسيين كلها على خلفية (إقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    هل رضيت؟    موقف موسى هلال يجب أن يسجل في دفاتر التاريخ    الخال والسيرة الهلالية!    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    نائب البرهان يصدر توجيها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    بمشاركة أمريكا والسعودية وتركيا .. الإمارات تعلن انطلاق التمرين الجوي المشترك متعدد الجنسيات "علم الصحراء 9" لعام 2024    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اوراقي الافريقية .. بقلم: السفير/ فاروق عبدالرحمن
نشر في سودانيل يوم 09 - 12 - 2020


بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة ثابتة في كل حلقة
أمنا افريقيا تجاهلناها كثيراً وقصرنا - كسودانيين - في حقها وبالتالي في حق أنفسنا .. مع أننا نلامس قلبها .. سوداننا نفسه قصرنا في حقه إذ قررنا انه الخرطوم وما حولها .. هجرنا مدننا الاقليمية الاخرى وجئنا - احياناً مرغمين - للعاصمة المثلثة فأصبحنا كلنا خرطوميين
ساعدتني الظروف أن زرت اماكن غير غير قليلة من قارتنا الجميلة عشت عدة سنوات في بعض اقطارها وتعلمت منها الكثير لكني أصر على ان بدايتي كانت بالسودان نفسه .. فهو افريقيا مصغرة .. كان حتى قبل عشرة أعوام اكبر أقطارها مساحة وتنوعا ًإذ أنه يلامس أو ينتمي لثلاثة من أقسامها الخمسة (شمال - شرق- و وسط ) ..
أرجو أن يعذرني القارئ ان تباهيت - دون رغبتي - بما ارى انني حققته في هذا المجال من زيارات او مغامرات صغيرة .. يجب ان اذكر نفسي بالآية الكريمة " ولا تمشي في الارض مرحاً انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً " ( سورة الإسراء الآية 37)" وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً "(سورة الإسراء الآية 85) وعليه وبعد 60 عاماً من السفر والتجوال .. ورؤية أكثر من نصف أقطار القارة ( المكونة من 55 بلداً ) فأنني لا زلت أطمع في رؤية الآخرين وتجديد الصلة ببعض الذين مررت عليهم اوا قمت بهم..
الآن - ولكي لا اطيل على القارئ فإنني لن التزم بسرد تاريخي ممل أو تفاصيل كثيرة وسأنتقل من مكان لآخر ومن موضوع لغيره دون تسلسل زماني أو مكاني .. وسأستعير بعض ما جاء في كتابي الصادر عام 2014.. وستكون البداية ببعض الأحداث المحلية أو العالمية كوفاة الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان
من مارشان إلى جيسكار ديستان
توفى هذا الاسبوع ( مطلع ديسمبر 2020) الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان وهو معروف في بلاده واخرى كثيرة بمنجزاته الاقتصادية والسياسية المهمة على مستوى بلاده واوربا اساساً مع مواقف عالمية جعلته من حكماء عصره ..كما نال في نفس الوقت انتقادات داخلية تسببت في فقدانه موقع السلطة بعد دورة رئاسية واحدة
لن أخوض في ذلك لأنني لن ازيده شيئاً على ما ذكره الآخرون او اشادوا به ولكن لما تميز به نحونا - السودان - فأنني اسطر القليل راجياً ان يكون مفيداً فهو الرئيس الفرنسي الوحيد الذي زار السودان .( انظر السودان وسنوات التيه صفحات 216-219 ) وذلك في إطار تعاملي مع الرئيس السابق جعفر نميري .. ودامت فقط نصف يوم اذ وصل في منتصف النهار وغادر في منتصف الليل ولكن التحضير لها اخذ مني اياماً وأيام في كفاح وشد وجذب مع كبار موظفي القصر الذين كان عليّ ان اواجههم وحدي بعد ان تقاعست وزارتنا في مواجهة جبروتهم . واذ كان هؤلاء متنرفزين فإلسفير الفرنسي كان أكثر نرفزة وحيث انه يعرفني بصفتي الأولى مديراً لإدارة غرب اوروبا التي تتعامل معها سفارته ، وبصفتي الاخرى والاهم بالنسبة له كدارس بمعاهدهم وكمتدرب بسفاراتهم فإنه كان يتصل بي و يزورني كل يوم ونحن نقترب من موعد مجيئ الرئيس الذي لم يكن السفير اصلا وفي ابعد أحلامه يظن بانه سيهبط عليه في الخرطوم . وقال لي مرة انه اتصل بوالدته التي تجاوزت الثمانين من عمرها تلفونياً ليخبرها بأن رئيسهم سيحل ضيفاً على موقعه من خريطة العالم وهو موقع لا يعرف مكانه من أبناء جلدته الا قليلون .. واحساسي هو ان السفير المسكين كان يشكو لوالدته الحنون مصيبته التي رماه فيها القدر بعد ان كان " لابداً " مطمئناً في هذه البقعه المجهولة من العالم المسماة الخرطوم لا يزعجه فيها وزير او حتى مدير فما بالك الآن حضور الرئيس نفسه ..
بعد مجهود جبار لدى اهل القصر وحضور وفد مقدمه فرنسي هام مكون من المراسم والأمن والإعلام وتفقدهم أماكن الإقامة في القصر الجمهوري والمطار وقاعة الصداقة حيث أقيم حفل العشاء وصل الرئيس جيسكار قادماً من رواندا الى خرطوم تغلي ناراً في منتصف نهار يوم صيفي . وكنا نقف خلف نميري في المطار إلى ان وصل الضيف ثم رافقناهم الى القصر وتبادل الكلمات القصيرة والهدايا ( واذكر ان جيسكارد اهدى نميري سرجاً جلدياً جميلاً منقوش عليه GMN هي الحروف الاولى من اسمه ( جعفر محمد نميري) لأنه كما قال علم : ان نميرى يحب ركوب الخيل وممارسة رياضة البولو ) اما في حفل العشاء الذي حضرته لأول مرة مجموعة كبيرة من السيدات السودانيات فقد اتفقنا على ان يقوم الاخ الدكتور نور الدين ساتي( سفيرنا الحالي في واشنطن) بقراءة الترجمة للكلمة الطويلة التي كان سيلقيها نميرى وقد اكملنا سوياً اعداد الترجمة بشكل ممتاز وتم الاتفاق مع اهل المراسم على ان يقرأ الرئيس ما لايزيد عن نصف صفحة ثم يتوقف ليقرأ نور الدين المقابل بالفرنسية. ووضعنا الفواصل في كلمة الرئيس حتى يتوقف ثم يواصل بعد ان يكون نورالدين الذي كان يجلس خلف الرئيسين مباشرة قد القى على مسامع ضيوفنا النص الفرنسي .. وكنت احتفظ في جيبي وانا اجلس على مائدة جانبية وحولي اثنان من كبار مستشاري الرئيس الفرنسي بنسخه من الكلمتين العربية وترجمتها الفرنسيه حرصاً من الا تسقط كلمة أو جملة ، ولكن نميري لم يترك فرصة لنورالدين فقد بدأ بالقراءة ولم يتوقف اطلاقاً وكنت ارى الحيرة في وجوه الضيوف فحاولت الاشارة لنور الدين بأن يومئ للرئيس بالتوقف ليقرأ ما عنده ولكن هيهات فقد داس نميري على البنزين ولم يستطع نورالدين ان يقول له شيئاً .. الرئيس جيسكارد بذل مجهوداً لكي يفهم شيئاً بمتابعته لنميري ولعله كان خبيراً في لغة الشفاه ولم يتضايق الى ان جاء الدور على نور الدين ليقرأ في فرنسية راقية الكلمة كاملة وتنفسنا جميعاً الصعداء.. ثم بعد ذلك تحدث الرئيس الفرنسي تاركاً المجال كل دقيقتين او ثلاث للمترجم ( واقول بلا مبالغة ان لنا نحن السودانيون جمالاً في النطق - في الفرنسية كما في الانجليزية - يتفوق على الفرانكفونيين الاصلاء من شاكلة الاخوة في في شمال وغرب افريقيا ولبنان او الأنجلوفنيين من هنود و نيجيريين او من مصريين في المجموعتين ولا تسألني عن بشاعة نطق الامريكان والانجليز للغة الفرنسية ).
صديقنا السفير الفرنسي في الخرطوم كان أسعد الناس بإقلاع الطائرة الرئاسية من مطار الخرطوم منتصف ليل ذلك اليوم ولم يكن ذلك فقط بسبب انزياح الهم عن كاهله ولكن بسبب النجاح الذي حققته الزيارة فنميري كان وقتها رئيساً لمنظمة الوحدة الافريقية ( بعد مؤتمر القمة الافريقية بالخرطوم 1978 م) بينما كانت فرنسا ترأس مجلس أوروبا ( شئ مختلف عن الاتحاد الأوروبي ) وكانت قمة كيقالي ( رواندا) التي اختتمت أعمالها صباح نفس اليوم قد قررت إنهاء حكم الإمبراطور بوكاسا ( دكتاتور أفريقيا الوسطى ) المجاورة لنا فكنا اول من علم بالقرار الفرنسي خارج المنظومة وحيث ان السودان دولة مجاورة لتلك البلاد لذا كان من المناسب أن يبلغ بالخبر على أعلى مستوى.. وكانت الزيارة على قصرها فرصة لتعميق التعاون بين البلدين في المجالات التنموية المختلفة خاصةً في التعدين ( منجم ارياب للذهب في شرق السودان ) والري ( قناة جونقلي في أعالي النيل الأبيض والتي اكتمل أكثر من ثلثيها بطول 270 كيلومتر قبل ان ينفجر التمرد سنة 1983 ويتبخر المشروع بأكمله..
كنت التقيت الرئيس دستان قبل ذلك في العاصمة البريطانية لندن بصفتي قائماً بأعمال السفارة ( بين السفيرين المرحومين محمد خير عثمان وامير الصاوي) مطلع عام 1976 وقد جاء الرئيس الفرنسي في زيارة دولة ( اعلى مستوى للتعامل بين الدول ) بدعوة من الملكة اليزابيث التي عادة لا تستضيف في كل عام أكثر من أربعة من الضيوف مع إيلاء أسبقية دائماً لكل رئيس امريكي او فرنسي جديد .. وكان جيسكار ديستان في عامه الأول ولذلك تقدم الصفوف ( يذكر في هذا المجال أن الفريق إبراهيم عبود هو الرئيس السوداني الوحيد الذي زار بريطانيا زيارة دولة في ضيافة الملكة عام 1964 ووجه بدوره دعوة لها للمجئ للسودان وهي الزيارة التي تمت بالفعل في فبراير 1965بعد مغادرة عبود نفسه للسلطة بأربعة أشهر ) أما انواع الزيارات الاخرى الكثيرة التي يقوم بها عشرات الرؤساء - وحتى الملوك - والحكام الآخرون إلى لندن فهي من درجات مختلفة ( رسمية / عمل/خاصة / علاج الخ الخ ) لا دخل للملكة بها .. وبعد أن قابلنا الرئيس ديستان لبينا ضمن السلك الدبلوماسي الندني دعوة الملكة له في أمسية ثقافية رائعة في المسرح الملكي في عرض لأوبرا Verdi اسمها بالإيطالية Balle Maschio وتترجم " حفلة الاقنعة"
الملف الذي اعددته يومذاك تحضيراً للزيارة شمل مقدمة اردتها مفيدة وطريفة فقلت إن هبوط طائرة الرئيس جيسكار ديستان في مطار الخرطوم سيكون أكبر وجود فرنسي على الأراضي السودانية منذ مجيء الكابتن مارشان نهاية القرن التاسع عشر ورفعه العلم الفرنسي في فشودة قبل اسراع اللواء كتشنر لمواجهته بعد سقوط الدولة المهدية بأيام قلائل في كرري في سبتمبر1898 ..
كما قلت ان الرئيس الفرنسي الزائر سيكون اعلى كل الزوار درجة اذا اخذنا في الاعتبار أنه رئيس تنفيذي لدولة كبرى بخلاف كل الزوار الذين زارونا بعد الاستقلال بما في ذلك نائب الرئيس الأمريكي نيكسون و السوفيتي برجنيف و الملكة إليزابيث و شوان لاي رئيس وزراء الصين..
لم تعجب هذه المقدمة رؤسائي في الوزارة فأسقطناها وانصرفنا للجانب العملي .. وبعد عودة ديستان لبلاده بقليل أزيح بوكاسا من حكم جمهورية أفريقيا الوسطى ( جارتنا من الجنوب الغربي ملاصقة لدارفور وبحر الغزال ) وكان الرجل الذي حير العالم بأن أعلن نفسه امبراطوراً على تلك البلاد الفقيرة وأنفق ميزانية البلد لعام كامل في حفل باذخ دام يوماً واحداً حضره فقط اثنان من ممثلي الدول الافريقية أحدهم أبو القاسم محمد إبراهيم نائب نميري ..فحتى فرنسا لم تشارك وكذلك رفض بابا الفاتيكان ، كان صديقاً للرئيس جيسكارد الذي اعطى الاشارة لقوات الباراكودا الفرنسية للتدخل وإزاحة الرجل وترحيله لفرنسا حيث أقام عدة سنوات ..
لكنه انتقم لنفسه حتى وإن لم يقصد إذ تسبب في سقوط الرئيس ديستان في الانتخابات التي جرت عام 1981 وفاز فيها خصمه الاشتراكي فرانسوا ميتران . والنقيصة التي تسببت في سقوطه هي أنه عندما كان وزيراً للمالية تلقى رشوة من الإمبراطور بوكاسا تمثلت في مجوهرات وحجارة كريمة .. فضيحة الصحف الباريسية وأجبرته على التنازل عنها والتبرع بقيمتها للأعمال الخيرية .. ولكن ذلك لم يشفع له ..
بعد فترة غير طويلة انتقلت سفيراً في تلك البلاد الفقيرة فكانت سنواتي فيها لا تبارحها يوماً قصة من قصص الامبراطور الذي بدأ كشاويش في الجيش الفرنسي الذي حارب في فيتنام ثم ترقى بعد استقلال بلاده عام 1960 كولونيلاً فدبر انقلاباً عسكرياً صار به رئيساً للبلاد ..
ثم واصل ترقية نفسه الى رئيس مدى الحياة .. وواصل بعدها ترفيع نفسه الى امبراطور .. ثم السقوط حيث بدأ .. استعادته فرنسا وابقته عندها حتى تسلل عائداً إلى بانقي ظناً منه ان البلاد كلها ستخرج لتحمله على الأعناق .. ولكنه انتهى في سجن بائس على ضفاف نهر الاوبانقي موبؤ بالبعوض والحشرات.. حكم عليه الجنرال كولنقبا ثم عفا عنه فأمضى بقية حياته في إحدى الكنائس إلى أن مات فقيراً معدماً من كل شيء ..ويذكر ان بوكاسا قد دخل الإسلام بضعة أيام بتحفيز مالي كبير من معمر القذافي ولكنه لم يصبر عليه فعاد الى عقيدته الاولى..
كانت له محبة كبيرة للسودان منذ ايام الرئيس الازهري وخاصة في فترة حكم نميري الذي زار بانقي.. واهداه الرئيس نميرى منزلاً في ود مدني عاد للدولة السودانية التى وهبته اياه ( ارجو ان يتمكن الاخ السفير الدكتور الفاتح ابراهيم حمد من تسطير بعض النوادر التي كان شاهداًعليها في الخرطوم وبانقي خلال تلك الزيارات )
اعود بسرعة للكابتن ( نقيب)مارشان وفرقته الصغيرة الذين قطعوا آلاف الكيلومترات مشياً على الاقدام من برازفيل على نهر الكونغو ثم أبحروا في نهر الاوبانقي إلى أن دخلوا بحر الغزال ووصلوا فشودة شمال ملكال و رفعوا علم بلادهم قبل أن يسمع بهم الإنجليز الذين كانوا يقودون جيش الخديوي والذين ما أن جاءهم الخبر في ام درمان من بعض أنصار المهدي بأن أناسا غرباء - بيض وافارقه - قد وصلوا النيل الابيض ورفعوا علماً ثلاثي الالوان الا واسرع الجنرال كتشنر في عدة بواخر وقوة هائلة تساوي عشرة اضعاف القوة الفرنسية المكونة مما لا يزيد عن مائة وخمسين فرداً أكثر من نصفهم من السنغاليين .. جرى التفاوض فرفض مارشان التزحزح واشار الى انه مستعد للقتال فهو يستند الى أنه وصل اولاً وان أفريقيا في تلك الأيام كانت (الحشاش يملأ شبكته ) بعد مؤتمر برلين الذي أباح التكالب على أفريقيا Scramble for Africa وحيث ان بريطانيا تريد الموقع لتحقيق خط السكة الحديد الذي أطلقت عليه كايرو كيب تاون ( القاهرة رأس الرجاء الصالح ) وفرنسا تريد ان تربط أفريقيا الاستوائية بساحل الصومال ( جيبوتي ) ولكن جاءت الدبلوماسية لتحل محل المواجهة العسكرية الوشيكة بين الطرفين فأمرت باريس قوتها الصغيرة بالانسحاب من فشودة ( التي أصبحت تسمى كدوك ) لتدخر قوتها لمواجهة ألمانيا التي كانت تتحرش بها في أوروبا حيث تحتاج فرنسا للحليف الانجليزي.. وقد كان فانسحب مارشان وترك لكتشنر كمية من زجاجات الشمبانيا الفاخرة التي يحرص الفرنسيون على التزود بها حتى في تلك الأحراش والمشي على الأقدام .. ويقال انه كان سعيداً لان كتشنر كان يتكلم معه بالفرنسية ولم يرفع العلم البريطاني إنما اكتفى فقط بالعلم الخديوي المصري .. وبعد أقل من خمس سنوات وقع البلدان الاتفاقية الشهيرة المسماة الوفاق الودي Entente Cordiale عام 1904 وهي لا زالت سارية فقد احتفلا بمرور مائة عام عليها هنا في لندن عندما جاء الرئيس جاك شيراك عام 2004 وقد أنهت حروباً بين البلدين دامت قروناً عديدة .. ثم تصالحت فرنسا مع ألمانيا بعد حروب دموية واحتلال لاراضي كل واحد للآخر( والرئيس جيسكارد نفسه مولود عام 1926 في مدينة كوبلنز الألمانية التي كانت تحتلها فرنسا وبعد أقل من عقدين كان هو ضمن قوات المقاومة الفرنسية لألمانيا النازية المحتلة للعاصمة الفرنسية باريس والنصف الشمالي لفرنسا كلها ..
اقامتي في افريقيا الوسطى التى دامت أربعة أعوام إلا قليلاً بدأت مع صعود الجنرال كولنقبا للحكم في سبتمبر 1981.. وعند وقوع الانتفاضة في أبريل 1985 عدت منقولاً للخرطوم فذهبت مودعاً له بعد أن كنت قد رافقت وفد المجلس العسكري الانتقالي الزائر المكون من اللواءين فضل الله برمة ناصر (رئيس حزب الأمة الآن ) والمرحوم اللواء فارس عبد الله حسني وكان يرافقهما مترجماً الأخ نور الدين ساتي .. اذكر ان كولنقبا الذي قابلنا منفرداً دون أي من معاونيه كان يسأل ويكرر السؤال لماذا عام واحد ( المدة التي حددها مجلس سوار الدهب للبقاء في الحكم ) وحاول الاخوة افهامه إلا أنه على ما يبدو لم يقتنع .. واستمرفي الحكم بضعة أعوام حتى قامت ضده هبة شعبية وانتخابات إزالته من الحكم ( ارجو ان يتمكن الاخ نور الدين ساتي بالرغم من مشغولياته في واشنطن من تضمين مذكراته شيئاً من الزيارتين ..
والى أوراق افريقية اخرى
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.