Abdelwahab El-Affendi [[email protected]] (1) عندما شنت الولاياتالمتحدة حربها على أفغانستان بعد أقل من شهر من أحداث سبتمبر من عام 2001، أصدرت ثلة من كرام العلماء فتوى تجيز للمجندين المسلمين في الجيش الأمريكي المشاركة في الحرب على أفغانستان، بحجة ذرائعية ملخصها أن تمنع الجنود الأمريكيين المسلمين من المشاركة في الحرب قد يلقي بالشبهات على ولائهم لوطنهم وينعكس سلباً على أوضاع المسلمين في أمريكا والغرب. (2) كتبت حينها أقول إنه لا يجوز لمسلم ولا مسيحي ولا بوذي ولا يهودي ولا من أي ملة أخرى المشاركة في حرب عدوانية. فالأمر لا يتعلق بدين الشخص المعني وإنما بالمبادئ الإنسانية المشتركة. أما القول بأن رفض المسلمين المشاركة في عدوان غير مبرر قد يجعلهم موضع الشبهة فهو مردود لأن النظم الديمقراطية لا تفرض على مواطنيها الولاء الأعمى لسياسات حكوماتهم، وهناك جنود كثر من غير المسلمين رفضوا المشاركة في حروب أمريكا العدوانية من فيتنام إلى العراق، دون أن يقدح ذلك في وطنيتهم، بل اعتبره البعض قمة الوطنية. ويكفي أن الرئيس الحالي باراك أوباما كان من المعارضين علناً لحرب العراق. (3) هناك خطأ شائع يروج له كثير من "علماء" المسلمين، مفاده أن القيم الإسلامية لغز لا يفتح مغاليقه إلا دراس الكتب المنغلقين عن العالم. ولو كان الأمر كذلك لما قامت حجة على مخالف يقول يوم القيامة "إنا وجدنا آباءنا على أمة"، أو "إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا"، ولا على من "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله". فلو كانت الأمور مبهمة مغلقة بهذا القدر، فلكل آثم أن يقول إنه لم يجد الوقت ولا القدرة لتعلم المطلوب منه. (4) ولكن حجة الله قائمة على الناس أبد الدهر، لأن دينه من لدن آدم وإبراهيم إلى خاتم الأنبياء عليهم أفضل صلوات الله وسلامه، هو دين الفطرة ودين الحق. فالله لا يأمر بالفحشاء ولا بالمنكر، وإنما يأمر بالمعروف والعدل والإحسان والبر وكل مكارم الأخلاق، وينهى عن المنكر والباطل، وقد حرم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرماً. ولا يحتاج أي إنسان إلى رسالة دكتوراه في الفقه ليعلم أن الظلم والخبث والاحتيال هي من المنكرات. بل إن معظم مرتكبي الكبائر لا ينكرون خطأ فعلهم ، بل يجادلون بأهم "حالة خاصة" أجبرتهم الضرورات على إتيان ما أتوا. (5) فيما يتعلق بحالة غزة فإن الأمر لا يحتاج إلى خبراء في القانون الدولي للجزم بأن ما يتعرض له مواطنو ذلك الشطر من فلسطينالمحتلة من عقوبات جماعية هو منكر بواح وظلم بين لا تبرره أي ذريعة. وما نشهده اليوم من حراك واسع لمناضلين من كل الملل، بما في ذلك يهود إسرائيل، ونصارى أمريكا وأوروبا وملحديهما، وأهل ملل أخرى من الهند والصين وكل أركان الأرض، لإنكار منكر الحصار، لهو أبرز دليل على هذا. فهؤلاء لم يقرأوا فتاوى ابن تيمية ولم يقضوا زهرة شبابهم في أروقة الأزهر، ولكنهم أدركوا بحسهم السليم بطلان الباطل وفداحة الظلم، حتى قبل أن يقرر عباقرة الأمن المصري بناء جدارهم الفولاذي. (6) اتخاذ الجدر مثل جدار الفصل العنصري في إسرائيل أو سلفه سيء الصيت جدار برلين، هو في جوهره اعتراف بالفشل، تماماً مثل اتباع سياسة القمع والكبت من قبل حكام لفظتهم شعوبهم. فالحاكم الذي يكمم الأفواه ويكبت الحريات يعترف ضمناً بأن غالبية شعبه تكرهه ولا تطيق بقاءه، بحيث لو أطلق لها أقل قدر من الحرية لطردته من منصبه شر طردة. وكذلك من يبتني جداراً يعترف بأنه يواجه تياراً غلاباً لا قبل له به. ولنفس السبب فإن عاقبة هذه الجدر والأنظمة هو الانهيار الحتمي، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. (7) حينما تصدر طائفة من الأحبار والرهبان فتوى تقول بأن من الجائز التواطؤ في حرمان الأبرياء من أبسط ضرورات العيش مما قد يؤدي إلى هلاكهم فإن هؤلاء لايعلموننا شيئاً عن الدين، ولكنهم يعلموننا الكثير عن خبث النفس الإنسانية وضلالاتها. وليس هناك رد على مثل هذه الدعاوى أبلغ من قوله تعالى: "قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين." (8) هناك حجة رئيسة يسوقها هؤلاء على ما يدعون، وهي أن لمصر(ويعنون نظامها) كامل السيادة على أرضها، ولحكامها أن يفعلوا ماطاب لهم، حتى لو أرادوا أن يستضعفوا طائفة من الناس يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم. وهذه دعوى لا يقبلها الله تعالى ولا ما تعارف عليه أهل الأرض اليوم من مواثيق ارتضوها. فلا يوجد ما يعرف بالسيادة المطلقة، ولهذا السبب نصبت المحاكم الدولية وجيشت الجيوش الأممية للتدخل ضد أنظمة اعتقد جباروها أن مبدأ السيادة يجيز لهم ارتكاب الكبائر. (9) ولكن حتى بمفهوم السيادة المجتزأ هذا فإن أرض مصر هي للأسف تقع بين غالبية الدول العربية التي اتخذت أنظمتها من انتقاص السيادة وامتهانها منهجاً وسنة. ففي كل الأمور، ومنها شأن جدار الخيبة، فإن أمر الخارج مطاع، إلا حين يتعلق الأمر بقمع وقهر المواطنين، فهذا شأن "سيادي" لا تقبل فيه شفاعة الشافعين (ما لم يكن المقهور يحمل جنسية أجنبية بالطبع)، ولكنه أمر سيادي يبرر للأسياد بمصلحتهم ومصلحة استمرار النظام الموالي لهم. (10) من جهة أخرى فإن السيادة –المحدودة- المعترف بها دولياً هي سيادة الشعوب، لا الأنظمة. ولو أن شعب مصر استفتي في أمر الجدار، أو استمرار إغلاق المعابر (وهو أيضاً أمر يحتج فيه بنقيض السيادة، وهي الخضوع ل "التزامات مصر الدولية"، أي أوامر الخارج) لكان رأي الغالبية الساحقة مخالفاً لمنهج الظلم والعدوان المتبع طاعة للأجانب. (11) إن أم الفتاوى الإسلامية هي قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي". وإذا طبقنا هذه الفتوى على حالة غزة وأهلها من ذوي القربى وإخوة العقيدة، فإن "فتوى" كل من يبرر النهي عما أمر الله به ويأمر بما نهى عنه هي كذب على الله ورسوله. ولوقال إن هذا رأيي لوجدنا له العذر، ولكن لا عذر لمن يكذبون على الله تعالى وهم يعلمون.