زمان مثل هذا طلاق امرأة لم أتزوجها الصادق الشريف صديقي مُدثِّر كان رجلاً غرائبياً.. فرغم ذكائه الحاد، إلا أنّه يظهر ردود أفعالٍ باردة ولا مبالية تجاه كلّ الأحداث التي تدور من حوله.. لا سيّما حيال زوجته. كان مُدثِّر يتدثرُ بالصمت الخالي من أيِّ تعبير إزاء أيِّ حدث يستحق رداً حاسماً أو قولاً فصلاً.. كان يجنحُ الى فكرة غريبة.. وهي أنّ المشكلات تعمد الى حلّ نفسها بنفسها إذا لم تجد من يهتمُّ بها. لم أسمع بهذه النظرية من قبل.. رغمّ أنّي سمعتُ ب(القدريين).. الذين يعتقدون أنّ أقدار الله نافذة لا محالة.. ولا يمكن تغييرها البتة.. وبذلك الفهم والاعتقاد يستسلمون الى الدنيا ومصائبها.. وبالطبع هم مخطئون.. ولكن تلك قصةٌ أخرى. ما سأقصه اليوم عليكم.. هو تفاصيل ذلك اليوم الشتوي القارص.. حيث جاء إليَّ صديقي مُدثِّر قبيل المغرب بدقائق.. وخرجنا سوياً الى دكانٍ جديد يبيع (مديدة الدخن باللبن).. شربنا.. وشربنا.. حتى بان علينا بقية تلك الليلة أنّنا شربنا (مديدة دخن).. وهذا ما جلب المأساة لمُدثِّر في ذلك اليوم. عرجنا الى بيته.. كانت المديدة أقوى من الشتاء.. شعرنا بدفء تحت الحجاب الحاجز.. دلفنا إلى صالون مُدثِّر. الأجواء الباردة التي قاومناها بالمديدة جعلت مُدثِّر (يصدح) بالغناء.. كان صوته جميلاً بصورةٍ غير مسبوقة.. غنَّى للعاقب محمد الحسن (ياحبيبي ظمئت روحي وحنّت للتلاقي). زوجة مُدثِّر سمعت زوجها يغني.. كانت المرة الأولى منذ ما يقارب السنوات الثماني تسمعه يغني.. وتراه بتلك الأريحية.. تلك النشوة. صاحت من وراء حجاب (سجمي يا راجل بقيت تسكر؟؟!!). رفع صوته مجيباً (وهفا قلبي إلى الماضي وناداني اشتياقي). جاءت ب(الدرب عديييل) وهي تتأبط شراً (ماضي شنو يا عرة الرجال؟؟ أنت عندك ماضي وما وريتني ليهو؟؟). ذات الهدوء الذي كان يُسيطر على مّدثر في صمته.. سيطر عليه في تلك اللحظة وهو يغني.. فنظر إليها بعيون حزينة وقال (أنا ظمآنُ ألاقي في حنيني ما ألاقي). وصرخت المرأة صرخة عظيمة (واااااي).. صرخة لا يمكن أن تتوقعها من فمها الصغير، ثم أردفت (وووب علي.. الراجل جنَّ).. هرع على إثر الصرخة رجلان كانا يمران بالصدفة بجوار البيت. اعتذرت لهما بأنّ هذا نقاش أسري لا داعي للإحراج.. وودعتهما عند الباب.. وصرختُ أنا هذه المرة في وجه صديقي (يا سجم الرماد.. المراة دي حَ تفرِّج فيك الشارع لو ما حسمتها!!) نظر إليّ نظرةً ملؤها الحزنُ والشقاءُ وأجابني (أنت تدري ما بقلبي من عذابٍ وشجونِ). فاض بيَّ الكيلُ.. وللحظة كدتُ أن أجد عذراً لزوجته التي يبدو أنّ برودة وهدوء أعصابه قد أحرقا أعصابها.. فقلتُ له (يامدثر.. خليك من الوهم العايش فيهو دا.. احسم المرأة دي ولا أحسمها ليك أنا). طفرت الدموع من عينيه.. كأعظم ما يكون الشقاء وغنّى (أنا وحدي فيكَ يا شطُّ.. غريبٌ فأعني). عندما هوت زوجته ب(المفراكة) للمرة الأولى على رأسه.. فار الدمُّ في رأسي أنا.. أمسكتُ يدها وصرختُ (بالأصالة عن نفسي.. والإنابة عن مُدثر.. إنت طلقانه طلاق تلاته). التيار الصادق الشريف