[email protected] تمهيد: لأغراض هذا المقال، سيتم إستخدام مصطلح الجنوب أو السودان القديم للإستدلال علي السودان ما قبل إستقلال السودان الجنوبي، بينما سيستخدم مصطلح السودان الحالي للإشارة إلي الدولة التي تحمل هذا الإسم حاليا. ظلت أزمة هوية الدولة تؤرق شعوب السودان القديم، حيث سطي بعض المكونات الثقافية علي مركز صناعة القرار في القطر وعملت علي فرض ثقافة أحادية من خلال إستغلال الوسائط الإعلامية وإمكانيات الدولة لتصوير القطر علي أنه متماثل ثقافيا ومن ثم تصوير أي نمط ثقافي لا يتسق مع هذه الثقافة الموسومة بالرسمية علي أنه فعل ثقافي لا يعبّر إلا عن سلوك بدائي أقرب للمرتبة الحيوانية وقد عبّرت مدرسة الغابة والصحراء عن هذا الإتجاه. فاللغات النابعة من الثقافلة النوبية ذات الجذور الضاربة في عمق التاريخ تم وصمها بالرطانة (لغات طير). نجح هذا الخطاب في جذب ثلة من متطلعي الهامش الذين تماهوا مع هذا الخطاب وإنقطعوا عن أصولهم حيث أصبح من المألوف سماع عبارات علي شاكلة أنا من المحس بس ما برطن (لنفي الوصمة) ويا ود أخوي نحن ننظّف، تجي توسّخ. بيد أن بعض المجموعات الثقافية لم تتواني عن مقارعة عنف المركز اللفظي والمعنوي بوسائل أكثر عنفا لإجباره علي الإعتراف بواقع التعدد الذي لا تخطيئه العين. غير أن المركز ظن أن فصل هذه المجموعات الثقافية عن السودان القديم سيعجّل بالوصول إلي الأحادية الثقافية وذلك ببث خطاب يربط ما بين إستقلال جمهورية السودان الجنوبي وتمزيق السودان الحالي لآخر وثيقة ورد بها مصطلح تعدد ثقافي. فها هو رئيس السودان الحالي البشير وفي أول خطاب له بعد التاسع من يوليو 2011 يقول أن السودان الحالي قد حسم هويته العربية والإسلامية وأن أي حديث عن تعدد ثقافي يصب في خانة الدغمسة (طق حنك)، ولم يجهد نفسه بالسؤال عن أحد أهم أسباب خروج شعوب السودان الجنوبي من السودان القديم وماذا كان الدافع الذي حمسّهم للإستماتة في وجه المركز لخمسة عقود رغم تفوق المركز في العتاد في بعض الأحيان. لو سأل البشير هذا السؤال لعلم أن المحرّش ما بيقاتل وعبارة كابتن ماجد (كناية عن الجري) التي إنتشرت بين أفراد قوات السودان القديم لم تكن إلا تعبير صادق عن عدم رغبة هؤلاء في الموت من أجل قضية يؤمنون بها ما حدا بشمس الدين إعمال عقوبة الإعدام رميا بالرصاص فيهم حاصدا الرؤوس من جبهة إلي أخري. وها هوذا الطيب مصطفي دلوكة (الخال الديلوكس) يستعير الجزء الأخير من عبارة (الأخوة، العدالة، المساواة…إنني أطلق النار عليها جميعا…عندما أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي) من أحد جنود النازية ويقول: ( عندما أسمع كلمة تعدد أتحسس سلاحي). أيستطيع البشير أو الطيب (الأسماء هنا لا تعبّر بالضرورة عن سلوكهما) إنكار حقيقة أن النيل الأزرق، جبال النوبة، الشرق، دارفور وأقصي شمال السودان تقطنها شعوب أفريقية لا تمت للعروبة بصلة؟. واليوم عندما تدافع هذه الشعوب عن هويتها الثقافية يتم تجريمها، أليس في ذلك إعادة إنتاج للأزمة التي لازمت السودان القديم. يعتقد بعض الحالمين بأن شعوب السودان الجنوبي إنما إنفصلت كرها في حكم الإنقاذ فقط وأنها ستعود إلي السودان القديم فور طرد الإنقاذ بعد تطييب خاطرها بكلمات طيبة، وهذا لعمري تبسيط مخل للمعاناة التي عانتها هذه الشعوب لخمسة عقود من أجل الظفر بدولة متعددة تقوم علي المواطنة في ظل أنظمة وسمت تارة بالديمقراطية وتارة أخري بالعسكرية ولكن ظلت ممارسات السلطة المركزية هي هي. لقد إحتفت بعض أوساط السودان الحالي بتقرير البنك الدولي الذي جزم بنضوب آبار البترول الحالية في جمهورية السودان الجنوبي وقال قائلهم بأن شعوب السودان الجنوبي ستعود حينذاك مطاطئة الرؤوس إلي السودان الحالي الذي سيملي شروطه. يا عالم، جمهورية السودان الجنوبي بها إحتياطي نفطي لم يستغل بعد كما يزخر بثروات معدنية وزراعية. كيف تعود هذه الشعوب وأليسون مناني مقايا يحكي لهم تجربته (عشرين عاما ونيف) في وزارة الإنقاذ التي قضاها ما بين وزارة الثروة الحيوانية والعمل ولم يحلم بغيرهما وهاهو اليوم وزير للداخلية في وطنه، ثم من ذا الذي سيستفتي هذه الشعوب ليحصل علي نسبة أعلي من 99.83% لإبطال إستقلال دولتهم أو عودة الدوّامة إياها، لقد تفوقتم علي زلّوط في الأحلام. الجنوب القديم إستنفد كل المقترحات التي كان من شأنها إبقاء السودان القديم موحدا بدءا من فيدرالية 1947، كونفدرالية 1992 وأخيرا الإستقلال، مش آخر العلاج الكي برضو. التعايش بين الدولتين هو الممكن. مع صعود نجم الحركات الإسلاموية في الدول العربية وأفول نجم الحركة الإسلاموية بالسودان، يتمني قادة الإنقاذ لو أنهم تأخروا عشرين حولا وذلك لأن القطار الذي أتي بالحركات العربية سوف يأخذهم لتلحقهم أمات طه لتلحق بهم ذات الحركات بعد أقل من عقدين من الآن. لن تشفع للبشير أبقاره ولا أغنامه التي يقدمها للشعب المصري عبر تنظيم الأخوان المسلمين للتعجيل بقدوم الأخير للحكم وتوفير حماية له. أفضل عمل يمكن أن تقوم به الشعوب العربية هو إنتخاب الأحزاب الإسلاموية التي ستفتتن بالسلطة وتذهب بريقها وتتحول إلي ديكتاتوريات جديدة ودونكم تاريخ الحركة الإسلاموية السودانية ذات الجماهيرية قبل إنقلابها وهاهي اليوم تتحول إلي جنازة بحر مشوهة لا يستطيع أحد التعرف عليها وإنتشالها وإنتنت رائحتها بعد أن نخر الفساد في جسدها وفقد قادة الإنقاذ الثقة في الصيرفة الإسلامية وأصبحوا يحتفظون بأموالهم بالمنازل.